الجمعة الرابعة الثلاثين / الثامنة والعشرين من شعبان لعام 1440هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة الثامنة و الثلاثين بعد الثلاثمائة ( 338) في تعداد الجمع ، والرابعة والثلاثين ( 34 ) في عام ( 1440هـ ) وتوافق ( 28 / 8 / 1440 هـ ) بحسب التقويم

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

بفضل الله وله المنة نُتِمُّ بقية القصة وفيها عبرة : 

قال التنوخي*:  …

قال: ولم ؟ ….   

قلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك ، حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك ، وولدك ، ومالك ،  وأخرجك عن جميع حالك ،  وحيدا ،  فريدا ،  مقيدا ،  لا تدرى ما يصير إليه أمرك  ، ولا كيف تكون ،  وأنت مع هذا ، فارغ القلب ، تصف بساتينك وضياعك  [ هذا وقد رأيتك وقد جئتُ ، وأنت لا تعلم فيما جئت ، وأنت ] ساكن القلب ، قليل الفكر ، وقد كنت عندي شيخا عاقلا .

  فقال لي مجيبا: إنا لله وإنا إليه راجعون ،  أخطأتْ فراستي فيك يا منارة ،  قدرتك رجلا كامل العقل،  وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل ،  إلا بعد أن عرفوك بذلك ، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقولهم ،  فالله المستعان.

 

 أما قولك في أمير المؤمنين ، وإزعاجه لي من داري ، وإخراجه إياي إلى بابه  على هذه  الصورة ، فأنا على ثقة بالله عز وجل ،  الذي بيده ناصية أمير المؤمنين ،  فلا يملك معه لنفسه ، ولا لغيره ، ضرا ولا نفعا ، إلا بإذن الله ومشيئته، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه.

وبعد، فإذا عرف أمير المؤمنين  أمرى ،  وعلم سلامة جانبي ،   وصلاح ناحيتي ،  وإن الأعداء والحسدة ، رموني عنده بما لست في طريقه، وتقوّلوا على الأقاويل الكاذبة، لم يستحل دمى  ، وتحرّج من أذاي وإزعاجي،  فردني مكرما ،  أو إقامتي ببابه معظما، وإن كان سبق في قضاء الله تعالى ،  أنه يبدر إليَّ ببادرة سوء ،  وقد حضر أجلى، وحان سفك دمى على يده ،  فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل السماء والأرض ، على صرف ذلك عنى ،  ما استطاعوا، فَلِمَ أتعجّل الهمّ ، وأتسلّف الفكر والغمّ ،  فيما قد فرغ الله  منه، وأنا حسن الظن بالله الذي خلق ورزق، وأحيا وأمات، [وفطر وجبل، وأحسن

وأجمل، وأين الصبر والرضا والتفويض والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة ] ، وكنت أحسب أنك تعرف هذا ،  فإذا قد عرفتُ مبلغ فهمك فإني لا أكلّمك بكلمة ، حتى تفرّق بيننا حضرة أمير المؤمنين.

ثم أعرض عنّى ،  فما سمعت له لفظة بغير القرآن والتسبيح ، أو طلب ماء أو حاجة تجرى مجراه ،  حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر، فإذا النّجب قد استقبلتنا على فراسخ ** من الكوفة ،  يتجسسون خبري فلما رأوني رجعوا بخبري إلى أمير المؤمنين ،  فانتهيت إلى الباب في آخر النهار.

 

 فدخلت على الرشيد ، فقبلت الأرض ، ووقفت بين يديه .

فقال: هات ما عندك وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة.

فسقت إليه الحديث من أوله  إلى آخره حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة، والطعام، والغسل، والبخور، وما حدثت به نفسي من امتناعه مني ،  والغضب يظهر في وجهه ويتزايد حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة ، وانفتاله ،  وسؤاله عن سبب مقدمي ، ودفعي الكتاب إليه ،  ومبادرته إلى إحضار ولده وأسبابه، ويمينه أن لا يتبعه أحد منهم ،  وصرفه إيّاهم ، ومد رجله حتى قيدته ، فما زال وجه الرشيد يسفر.

 فلما انتهيت إلى ما خاطبني به في المحمل عند توبيخي إياه ، قال:  صدق والله ، ما هذا إلا رجل محسود على النعمة، مكذوب عليه ، وقد آذيناه ، ولعمري قد أزعجناه ،  وروّعناه ،  وروّعنا أهله ،  فبادِر بنزع قيوده عنه ،  وائتني به.

فخرجت ، ونزعت قيوده ،  وأدخلته إلى الرشيد ،  فما هو إلا أن رآه ، حتى رأيت ماء الحياة يدور في وجه الرشيد ،  ودنا الأموي ،  وسلم بالخلافة ، ووقف ،  فرد عليه الرشيد ردا جميلا وأمره بالجلوس ،  فجلس .

وأقبل عليه الرشيد ثم قال له : إنه بلغنا عنك فضل همة، وأمور أحببنا معها أن نراك ، ونسمع كلامك ، ونحسن إليك فاذكر حوائجك .

 فأجاب الأموي جوابا جميلا ،  وشكر ،  ودعا ، وقال: أما حاجتي فما لي إلا حاجة واحدة.

 قال: مقضية. فما هي؟ .

 قال :  يا أمير المؤمنين ،  تردني إلى بلدي ، وأهلي ،  وولدي.

 قال :  نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من مصالح جاهك ومعاشك، فإن مثلك لا يخلوا أن يحتاج إلى شيء من هذا.

فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون ، وقد استغنيت بعدلهم عن مسألته ، وأموري منتظمة ، وأحوالي مستقيمة ، وكذلك أمور أهل بلدي،  بالعدل الشامل في دولة أمير المؤمنين.

فقال له الرشيد: انصرف محفوظا إلى بلدك ،  واكتب لنا بأمر إن عرض لك. فودعه الأموي .

 فلما ولى خارجا ، قال لي الرشيد  : يا منارة أحمله من وقتك ، وسر راجعا كما أتيت به  حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه ، فارجع وخله .

ففعلت ذلك.

*الفرج بعد الشدة للتنوخي المجلد الثاني ص 34  ، تحقيق  الأستاذ عبود الشالجي طبعة دار صادر 1398 هـ .

**الفرسخ في اللغة : السكون ، وأطلق الاسم على مسافة معينة ، لأن من سار تلك المسافة قعد واستراح ، فكأنه سكن ، وجاء في الغيث المسجم في شرح لامية العجم : ( 2 / 123 ) أن الفرسخ : ثلاثة أميال ، والميل : ألف باع ، والباع : أربعة أذرع ، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً ، والإصبع : ست شَعِيرات ( قال أبو حكيم : وقرأت فيه زيادة : يوضع ظهر هذه لبطن هذه ) ، والشعيرة ست شعرات من ذنب بغل  ، وأن البريد أربعة فراسخ .  

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

اترك تعليقاً