الجمعة الثالثة والثلاثين / الحادية والعشرين من شعبان لعام 1440هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة السابعة و الثلاثين بعد الثلاثمائة ( 337) في تعداد الجمع ، والثالثة والثلاثين ( 33 ) في عام ( 1440هـ ) وتوافق ( 21 / 8 / 1440 هـ ) بحسب التقويم

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

أما اليوم فهي قصة وفيها عبرة : 

قال التنوخي*:  وجدت في كتاب أبى الفرج المخزومي الحنطي، عن أبي أمية الهشامي ،  بإسناده … ، عن منارة خادم الخلفاء ،  قال:

 رُفع إلى هارون الرشيد،  أن رجلا بدمشق ، من بقايا بنى أمية عظيم الجاه، واسع الدنيا ، كثير المال والأملاك، مطاعا في البلد ، له جماعة وأولاد ومماليك وموالي ،  يركبون الخيل ، ويحملون السلاح ، ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه فتق لا يمكن رتقه ،  فعظم ذلك على الرشيد.

قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذه الحال وهو في الكوفة،  في بعض خرجاته إلى الحج في سنة ست وثمانين ومائة وقد عاد من الموسم،  وبايع للأمين ثم المأمون ثم المؤتمن .

 فدعاني وهو خالٍ ،  فقال لي: إني دعوتك لأمر أهمني وقد منعني النوم ، فانظر كيف تكون ؟ ثم قص على خبر الأموي .

وقال: اخرج الساعة،  فقد أعددت لك الجمازات، ( إبل بختية تدرب على نوع من السير سريع )،  وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلات، وضممت إليك مائة غلام، فاسلك البرية،  وهذا كتابي إلى أمير دمشق ، وهذه قيود ، فادخل وابدأ بالرجل فإن سمع وأطاع ، فقيده ، وجئني به.

وإلا فتوكل به أنت ومن معك حتى لا يهرب ، وأنفذ الكتاب إلى أمير دمشق ، ليركب في جيشه فيقبض عليه ، وجئني به ، وقد أجلتك لذهابك ستا، ولعودك ستا، ويوما لمقامك،  وهذا محمل تجعله – إذا قيدته – في شقة وتجلس أنت في الشق الآخر، ولا تكل حفظه إلى غيرك، حتى تأتيني به اليوم الثالث عشر من خروجك، وإذا دخلت داره فتفقدها ، وجميع ما فيها ، وولده ، وأهله ، وحاشيته ، وغلمانه ، وقدر النعمة، والحال، والمحل،  واحفظ ما يقوله الرجل حرفا بحرف،  من جميع ألفاظه ، مند وقوع طرفك عليه ، إلى أن تأتيني به، وإياك أن يشذ عليك شيء من أمره ، انطلق مصاحبا .

قال منارة: فودعته وخرجت ، فركبت الإبل ، وطوينا المنازل ، أسير الليل والنهار، ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين والبول وتنفيس الناس قليلا .

 إلى أن دخلت دمشق في أول الليلة السابعة ، وأبواب البلد مغلقة ، فكرهت طرقها، ونمت بظاهر البلد، إلى أن فتح بابه في الغد ، فدخلت على هيأتي،  حتى أتيت باب دار الرجل ، وعليه صفف كثيرة ( موضع للجلوس مظلل بجريد النخل وغيره ) ،  وحاشية كثيرة ، فلم أستأذن ، ودخلت بغير إذن .

فلما رأى القوم ذلك، سألوا بعض أصحابي عنى ،  فقالوا لهم : هذا منارة رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم

فأمسكوا .

فلما صرت في صحن الدار، نزلت،  ودخلت مجلسا،  رأيت فيه قوما جلوسا ، فظننت أن الرجل فيهم ، فقاموا إلى ورحبوا بي وأكرموني .

 فقلت أفيكم فلان؟.

 قالوا: لا نحن أولاده وهو في الحمام.

قلت: فاستعجلوه .

فمضى بعضهم يستعجله ، وأنا أتفقد الدار، والأحوال، والحاشية،  فوجدت الدار قد ماجت بأهلها موجا شديدا .

فلم أزل كذلك ، حتى خرج الرجل ، بعد أن أطال، واستربت به ،واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى .

 إلى أن رأيت شيخا قد أقبل بزي الحمام ، يمشى في الصحن، وحوله جماعة كهول ، وأحداث ، وصبيان ، هم أولاده، وغلمان كثيرة ،  فعلمت أنه الرجل .

 فجاء حتى جلس ، وسلم عليَّ سلاما خفيفا،  وسألني عن أمير المؤمنين ، واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب. فما انقضى كلامه حتى جاؤوه بأطباق الفاكهة ،  فقال لي: تقدم يا منارة كل معنا.

فقلت ما بي إلى ذلك حاجة .

فلم يعاودني فأقبل يأكل هو والحاضرون معه ، ثم غسل يده، ودعا بالطعام ، فجاؤوه بمائدة حسنة جميلة ،  [لم أر مثلها إلا للخليفة]،  فقال لي: تقدم يا منارة فساعدنا على الأكل  ، لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة.
فامتنعت ، فما عاودني ، وأكل هو وأولاده  [وكانوا تسعة ، عددتهم ، وجماعة كثيرة من أصحابه ، وحاشيته ، وجماعة من أولاده وأولاد أولاده ] .

 وتأملت أكله في نفسه،  فوجدته أكل الملوك ووجدت ، جأشه رابطا ، وذلك الاضطراب الذي في داره قد سكن ،  ووجدته لا يُرفع من بين يديه شيء ، كان على المائدة إلا وُهب.

وقد كان غلمانه ، لما نزلت الدار ، أخذوا جمالي،  وجميع غلماني ، فعدلوا بهم إلى دار له ، فما أطاقوا مما نعتهم، وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة غلمان وقوف على رأسي.

 فقلت في نفسي: هذا جبار عنيد ، فإن امتنع عليَّ من الشخوص ، لم أطق أشخاصه بنفسي ، ولا بمن معي ،  ولا حفظه إلى أن يلحقني أمير البلد، وجزعت جزعا شديدا ،  ورابني منه استخفافه بي ، وتهاونه بأمري ، ويدعوني باسمي،  وقلة اكتراثه بامتناعي من الاكل والشرب ،  ولا يسألني عما جئت له،  ويأكل مطمئنا.

 وأنا أفكر في ذلك إذ فرغ من طعامه ، وغسل يده ، واستدعى بالبخور فتبخر ، وقام إلى الصلاة ،  فصلى الظهر صلاة حسنة ،  وأكثر من الدعاء والابتهال .

 فلما انفتل من محرابه،  أقبل عليَّ ،  وقال: ما أقدمك يا منارة ؟

فقلت :  أمر لك من أمير المؤمنين ، وأخرجت الكتاب ،  فدفعته إليه ،  ففضه وقرأه، فلما استتم قراءته ،  دعا أولاده ، وحاشيته ،  فاجتمعوا ، فلم أشك أنه يريد أن يوقع بي .

 فلما تكاملوا ، ابتدأ فحلف أيمانا غليظة ، فيها الطلاق، والعتاق، والحج، والصدقة، والوقف، والحبس، إن اجتمع منهم اثنان في موضع، وأن يتفرقوا ويدخلوا منازلهم ولا يظهر منهم أحد ، إلى أن ينكشف له أمر يعمل عليه.

ثم قال: هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه، ولست أقيم بعد نظري فيه لحظة واحدة .

وقال لغلمانه ، وأولاده : استوصوا بمن ورائي من الحرم خيرا، وما بي حاجة أن يصحبني غلام،  هات أقيادك يا منارة.

 فدعوت بها ، وكانت في سفط ، فأحضر حدادا ، ومد ساقيه ، فقيدته ، وأمرت غلماني بحمله حتى حصل في المحمل، وركبت الشق الآخر،  وسرت من وقتي ولم ألق أمير البلد ولا غيره .

 وسرت بالرجل ، ليس معه أحد،  إلى أن صرنا بظاهر دمشق ،  فابتدأ يحدثني بانبساط ، حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة ،  فقال لي: ترى هذا؟.

 قلت: نعم .

 قال: هو لي ، وفيه من غرائب من الأشجار كيت وكيت، ثم انتهى إلى بستان آخر، فقال مثل ذلك، ثم انتهينا إلى مزارع حسان ، وقرى سرية ، فأقبل يقول :  هذا لي ،  ويصف كل شيء فيها .

فاشتد غيظي منه ،  فقلت له : هل علمت أنى شديد التعجب منك!

قال: ولم ؟ ….   

( الجواب وبقية القصة في الجمعة القادمة إن فسح الله في الأجل ، اللهم اختم لنا بخير ) .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

اترك تعليقاً