من مختارات أبي حكيم في الجمعة السادسة عشرة بعد الثلاثمائة ( 316) في تعداد الجمع ، و الثانية عشرة ( 12 ) في عام ( 1440هـ ) وتوافق (22 / 3 / 1440 هـ ) بحسب التقويم
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
اليوم مع سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، واسم الكتاب الذي بين أيدينا : ( جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى ) , ألفه : علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، الأندلسي، الظاهري، وحققه : إحسان عباس ، وهو في مجلد واحد ، وما أنقله اليوم نسخا من الموسوعة الشاملة – لداعي السفر – ( بتصرف يسير جدا وتعديل بعض الملاحظات :
قال المحقق في المقدمة :
لسنا نبعد عن الحق حين نفترض أن ابن حزم، في كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يرمي إلى وضع مختصر قريب المأخذ، سهل المتناول، في أيدي طلابه، كما فعل في كثير من رسائله التاريخية، مثل رسالة ” نقط العروس ” ، ورسائله في رجال القراءات، والحديث،
والفتوح، وتواريخ الخلفاء؛ وأنه كان في هذا المختصر يضع الأصول التي لا يستغني عن تذكرها أو استظهارها كل من اشتغل بالسيرة النبوية من طلاب العلم.
قد تكون هذه الغاية التعليمية باعثاً أكيداً، يحدو عالماً مثل ابن حزم إلى كتابة السيرة النبوية، ولكنها ليست كل ما هنالك من بواعث. ومن يعرف قيمة النقل والاستكثار من السنن في مذهب أهل الظاهر عامةً، وعند ابن حزم خاصة – والسيرة جزء هام من هذا النقل – يجد أن تناول ابن حزم للسيرة بالنظر الجديد، والتحديد والتقييد، إنما هو جزء من مذهبه.
فالنقل أساس من أسس المذهب الظاهري، بل ميزة يعدها ابن حزم للملة الإسلامية على سائر الملل؛ وعن طريق النقص في النقل، وضعف الثقة في الناقلين، هاجم ابن حزم الملل الأخرى، ورآها أضعف من أن تثبت للنقد الصحيح.
غير أن سيرة الرسول ليست جزءاً من النقل فحسب. بل هي صورة عليا من الكمال الإنساني، في نفس ابن حزم، ولذلك لا غرابة في أن يجعل منها موضوعه المحبب، وأن يحاول وضعها للناس وضعاً ميسراً قريباً واضحاً بين الحقائق.
وإن شخصاً يعتقد أن ” من أراد خير الآخرة، وحكمة الدنيا، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعتمد أخلاقه وسيره ما أمكنه ” .
لا يسأل كثيراً عن البواعث التي تضاعف عنايته بالسيرة، وتحدوه إلى كتابتها من جديد.
بل الأمر يزيد على كل ما تقدم قوة ورسوخاً، حين نعلم أن سيرة الرسول عند ابن حزم، دليل من الأدلة الساطعة على ثبوت نبوته.
حقاً إن المعجزة من أدلة النبوة، ولكن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم معجزة تزيد في قوتها ودلالتها على سائر المعجزات المادية.

يقول ابن حزم: ” إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلى الله عليه وسلم لكفى ” .
ويوضح أبو محمد رأيه هذا بالأمثلة ، فيقول: ” وذلك: أنه عليه السلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل، لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين: إحداهما إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع؛ والأخرى أيضاً إلى أول الشام، ولم يطل بها البقاء، ولا فارق قومه قط. ثم أوطأ الله تعالى رقاب العرب كلها، فلم تتغير نفسه، ولا حالت سيرته، إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعيرٍ
لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ولم يبيت قط في ملكه دينار ولا درهم، وكان يأكل على الأرض ما وجد، ويخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه، ويؤثر على نفسه؛ وقتل رجل من أفاضل أصحابه، مثل فقده يهد عسكراً ، قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى أذى أعدائه بذلك، إذ لم يوجب الله تعالى ذلك، ولا توصل بذلك إلى دمائهم، ولا إلى دم واحد منهم، ولا إلى أموالهم، بلى فداه من عند نفسه بمائة ناقة، وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوى به…. ” .
وبهذا الروح، بل بهذا الأسلوب نفسه، كتب ابن حزم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وميز بالعناية البالغة فصلين هامين منها، هما: أعلام الرسول، وخلقه وشمائله. وهذان هما الوضوعان اللذان سيكررهما في كتاباته الأخرى ، لأنهما شاهدا حق على نبوة الرسول، ولأن ثانيهما يمثل الجانب العملي في الكمال الخلقي.
وقد ذكر ابن حزم كتابين من المصادر التي نقل عنهما، وهما: تاريخ أبي حسان الزيادي، وتاريخ خليفة بن خياط ، وهما من الكتب التي فقدت، وبقيت منهما نقول مبثوثة في بعض الكتب التاريخية؛ ولا ندري أطلع عليهما ابن حزم، أم نقل عنهما نقلاً غير مباشر. أما الذي لا شك فيه فهو أن تاريخ خليفة قد وصل الأندلس في عهد مبكر، برواية بقي بن خلد ، وبقى عند ابن حزم شيخ المفسرين والمحدثين.
ويدلنا البناء العام لكتاب السيرة، على أن ابن حزم يتكئ كثيراً على سيرة ابن إسحاق، وخاصةٍ حين أخذ في الحديث عن غزوات الرسول واحدة واحدة، وعد في كل غزوة أسماء من شهدها من المسلمين والمشركين، وأسماء من استشهد من المسلمين، حتى إن شدة اتباعه لرواية ابن إسحق في هذه المواطن لتطلعنا على ظاهرة عجيبة، فقد حافظ ابن حزم على النسب الكامل لأكثر من ذكرهم من الأشخاص،
وليس هذا مما يستغرب منه وهو صاحب الجمهرة في الأنساب إنما الغريب حقاً أنه في السيرة اختار رواية ابن إسحق نفسه في النسب، بينا لم يأخذ بها في الجمهرة. فلعله ألف الكتابين في فترتين متباعدتين، أو لعل مصادره في الجمهرة كانت كتباً أخرى، ليست تحتوي على رواية ابن إسحاق.
ونحن على ما يشبه اليقين من أن ابن حزم، الواسع الاطلاع، المعنى بالسيرة النبوية أشد عناية وأبلغها، قد أطلع على كثير من الكتب المؤلفة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونخص بالذكر منها مغازي موسى بن عقبة، وكتاب السير لسعيد بن يحيى الأموي، وأعلام النبوة لأبي داود السجستاني، وأعلام النبوة لأبي جعفر أحمد بن قتيبة، فكل هذه الكتب، وغيرها، هاجر إلى بلاد الأندلس، وتداوله الأندلسيون روايةً ودراسةً .
وقد أفاد ابن حزم في كتابه السيرة، ما صنعه من قبله شيخه ومعاصره أبو عمر بن عبد البر، مؤلف كتاب ” الدرر في اختصار المغازي والسير ” ، ونحن لا نملك من هذا الكتاب صورةً كاملة أو وافية، تدلنا إلى أي مدى اعتمد عليه ابن حزم، ولكن النقول القليلة التي احتفظ بها ابن سيد الناس من كتاب أبي عمر المذكور ، تؤكد أن ابن حزم قد نقل عن شيخه نقولا متفرقة في شيء قليل من التصرف، إلا أن نفترض أن المؤلفين نعنى ابن عبد البر وابن حزم ينقلان عن مصدر ثالث لم يقع إلينا.
