الجمعة الحادية والاربعين / الخامسة عشرة من شوال لعام 1439هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة المائتين والرابعة والتسعين ( 294) في تعداد الجمع ، و الحادية والأربعين (41) في عام ( 1439هـ ) وتوافق ( 15/ 10 / 1439 هـ ) بحسب الرؤية .

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

في كتاب : ( آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي ) * – رحمه الله –

 لما تكلم عن خلاصة تفسير المعوذتين من درس للشيخ عبدالحميد بن باديس رحمه الله قال من  سورة الفلق عند قوله تعالى : ( (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) سورة الفلق 4 ) …

والنفث : إخراج الهواء مدفوعا بالنفس بدون بصاق أو مع قليل منه تتطاير  ذراته في الهواء دون التفل ،  والنفث وإن كان عاما لكنه اشتهر فيما يفعله السحرة…

و من الشاهد لنفث الريق ما أخرجه مسلم – رحمه الله – من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ،  كان إذا اشتكى  الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه و سلم بأصبعه  هكذا (  تعني وضعها على الارض كما فسرها سفيان في العمل )  ثم رفعها فقال : (  بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى بها سقيمنا بإذن ربنا )

  وبعد رواية الإسناد لهذا الحديث سكت لحظة كمن يستجمع خواطره ثم اندفع فقال ما معناه بتوسع :

إن القرآن كتاب الدهر و معجزته الخالدة فلا يستقل بتفسيره إلا الزمن ، و كذلك كلام نبينا صلى الله عليه وسلم المبيّن له ،  فكثير من متون الكتاب و السنة الواردة في معضلات الكون و مشكلات الاجتماع ،  لم تُفهم أسرارها و مغازيها إلا بتعاقب الأزمنة وظهور ما يصدقها من سنن الله في الكون ،  و كم فسرت لنا حوادث الزمن و اكتشافات العلم من غرائب آيات القرآن و متون الحديث ،  و أظهرت منها للمتأخرين ما لم يظهر للمتقدمين و أرتنا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم في وصف القران : ”  لا تنقضي عجائبه ” .

العلماء القوامون على كتاب الله وسنه رسوله لا يتلقونهما بالفكر الخامل و الفهم الجامد ، و إنما يترقبون من سنن الله في الكون و تدبيره في الاجتماع ما يكشف  لهم عن حقائقهما ، ويكلون إلى الزمن وأطواره تفسير ماعجزت عنه أفهامهم وقد أثر عن جماعة من فقهاء الصحابة بالقرآن قولهم في بعض هذه الآيات : ” لم يأت مصداقها أو تأويلها بعد ” .  يعنون أنه آتٍ ،  وأن الآتي به حوادث الزمان  ووقائع الأكوان وكل عالم بعدهم فإنما يعطي صورة زمنه بعد أن يكيف بها نفسه .

ولو أننا عرضنا حديث التربة و الريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق متقسمة الحظوظ  في العلم و سألناهم :

 أية علاقه بين الشفاء و بين ما تعطاه النبي صلى الله عليه و سلم من أسبابه في هذا الحديث؟ فماذا تراهم يقولون ؟

 يقول المتخلف القاصر : تربة المدينة بريق النبي صلى الله عليه و سلم شفاء ما بعده شفاء .

 و يقول الطبيب المستغرب : هذا محال ، في التراب (مكروب ) و في الريق ( مكروب ) فأنّى يشفيان مريضا أو ينفسان عن مكروب.

 ويقول الكيمياوي : ههنا تفاعل بين عنصرين ودعوا التعليل ،  فالقول ما يقول التحليل .

 ويقول ذوو المنازع القومية و الوطنية ولو كانوا يدينون بالوثنية :  آمنا بأن محمدا رسول الله ، فقد علم الناس من قبل أربعة عشر قرنا ،  أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه تشفي من القروح والجروح ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقدا من المحبة و الإخلاص له ،   وليؤكد فيها  معنى الحفاظ له والاحتفاظ به و ليقرر لهم من مِنن الوطن منّة  كانوا عنها غافلين  ، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تغذي و تُروي فجاءهم من علم النبوة أنها تشفي ،  فليس هذا الحديث إرشادا لمعنى طبي ،  و لكنه درس في الوطنية عظيم ، و لو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقى و الطب ،  فإنه بباب حب الوطن أشبه …

 و ما نرى ذلك الغريب المريض الذي سئل فيم شفاؤك ؟  فقال :  شمة من تربة اصطخر و شربة من ماء نهاوند إلا من تلامذة هذا الدرس ،  ولقد زادنا إيمانا به بعد إيمان أنه يقول :  تربة أرضنا بريقة بعضنا ،  و لم يقل :  تربة أرضنا بريقة بني آدم  ، فليس السر في تربة و ريق ومرض ،  و لكن السر في أرضنا و بعضنا و مريضنا فهذه – و الله ربنا – صخرة الأساس في بناء الوطنية و القومية  لا ما يتبجح به المفتونون .

 ويقول الروحانيون : إن هناك روحا طاهرة تتصل بتربة الأرض التي خُلق المريض و منها و تتغدى بنباتها و مائها و تنفس كبده في جوها و هوائها من ريقة منفوثة نفث الخير من نفس مؤمنة قوية الروحانية طيبتها ، فيكمل التكوين بين الريق و التربة مع اسم الله الذي قامت به السماوات و الأرض و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة ، فيحصل الشفاء بهذا العمل النفساني .

وإذا تجلت النفوس في عجائبها لم يبق في الوجود عجيب .

 و يقول غير هؤلاء ما يقول ، وهذه هي المتون كاسمها متون ،  وهذه الأصول كاسمها أصول.                                                  و هكذا تأتي بعض المتون من كلام الله وكلام رسوله معجزة للعقول فتتطاير من حولها الفهوم و الآراء تطير الشعراء ، و يظن كل عقل أن حرفته آلة لتفسير تلك المتون ، و العلوم حرفة العقول ، و الزمان من وراء الكل يصيح : أن انتظروا…

* آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي جمع وتقديم نجله الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في ( 5 ) مجلدات ، طبعته دار الغرب الإسلامي  بتونس الطبعة الأولى ( 1997 ) . والنقل من المجلد الأول من ص ( ٣٥٢ وما بعدها ) بتصرف ( حذف) يسير جدا .

** كتبت  هذه المختارة في جدة المحروسة إبان رحلتنا العائلة للزيارة الحرمين والساحل الغربي حتى العلا في أحد عشر يوما من فجر الأحد  ( 10 / 10 / حتى مغرب  الخميس ( 21 /  10 / 1439 ) .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

اترك تعليقاً