الجمعة السادسة والثلاثين / التاسع من رمضان لعام 1439هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة المائتين والتاسعة و الثمانين ( 289) في تعداد الجمع ، والسادسة والثلاثين ( 36) في عام ( 1439هـ ) وتوافق ( 9/ 9 / 1439 هـ ) بحسب الرؤية .

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله   :  رمضان شهر القرآن ،  رزقنا الله التأمل فيه  وفهمه .

مما مرَّ عليَّ في سورة البقرة  من الآية ( 221 )  حتى الآية ( 242 ) تجدها تتحدث عن أحكام تتعلق ( بالحياة الزوجية ، أو ما يسمى في الفقه : بكتاب النكاح والطلاق وما يدور حولهما ) فمن قوله تعالى : (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)  حتى قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) )

، فللمتأمل في ثنايا الثنتين والعشرين آية يجد بينها آيتين تتحدثان عن ركن الصلاة ، هما قوله تعالى  : (  حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239(   فلماذا ؟ وما الحكمة ؟  .

الجواب والله أعلم من كلام محمد الطاهر بن عاشور – رحمه الله –  في تفسير التحرير والتنوير * حيث يقول : 

الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط ، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها ، فقد يجمع به الشيء للشيء

من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة ، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول ، أو تكون الآية مأموراً بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في ( المقدمة الثامنة )(1 ) ،  ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني ، أو في انسجام نظم الكلام ، فلعل آية ( حافظوا على الصلوات )  نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى ، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها ، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد .

وإذا أبيت ألاّ تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية : ابتداء من قوله : ( يسألونك ماذا ينفقون ( [البقرة : 215 ] ، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قوله : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم)  [البقرة : 237 ] فإن الله دعانا إلى خُلق حميد ، وهو العفو عن الحقوق ، ولما كان ذلك الخُلق قد يعسر على النفس ، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم ، من مال وغيره كالانتقام من الظالم ، وكان في طباع الأنفس الشح ، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين ، أحدهما دنيوي عقلي ، وهو قوله : ( ولا تنسوا الفضل بينكم) ، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد ، ويصير العدو صديقاً وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فيعفى عنك ، إذا تعارف الناس الفضل بينهم ، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق .

الدواء الثاني أخروي روحاني : وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق ، حث الله على المحافظة عليها .
ولك أن تقول : لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين ، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية ، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر ، قال البيضاوي : «أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها» .

وقال بعضهم : «لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله »  وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية : ( كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة : 239] أي من قوانين المعاملات النظامية  … ) .

 

وقال برهان الدين البقاعي – رحمه الله – في تفسير (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)(2 )  : ولما ذكرت أحكام النساء وشعبت حتى ضاق فسيح العقل بانتشارها وكاد أن يضيع في متسع مضمارها مع ما هناك من مظنة الميل بالعشق والنفرة بالبغض الحامل على الإحن والشغل بالأولاد وغير ذلك من فتن وبلايا ومحن يضيق عنها نطاق الحصر ويكون بعضها مظنة للتهاون بالصلاة بل وبكل عبادة اقتضى الحال أن يقال: يا رب! إن الإنسان ضعيف وفي بعض ذلك له شاغل عن كل مهم فهل بقي له سعة لعبادتك؟ فقيل:   ( حافظوا)  : بصيغة المفاعلة الدالة على غاية العزيمة أي ليسابق بعضكم بعضا في ذلك ، ويجوز أن يكون ذلك  بالنسبة إلى العبد وربه فيكون المعنى: احفظوا صلاتكم له ليحفظ صلاته عليكم فلا يفعل فيها فعل الناسي فيترك تشريفكم بها، وأخصر منه أن يقال: لما ذكر سبحانه وتعالى ما بين العباد خاصة ذكر ما بينه وبينهم فقال:   وقال الحرالي  : لما كان ما أنزل له الكتاب إقامة ثلاثة أمور: إقامة أمر الدين الذي هو ما بين العبد وربه، وتمشية حال الدنيا التي هي دار محنة العبد، وإصلاح حال الآخرة والمعاد الذي هو موضع قرار العبد، صار ما يجري ذكره من أحكام تمشية الدنيا غلسا ( قال أبو حكيم : أي ظلمة ) نجوم إنارته أحكام أمر الدين،  فلذلك مطلع نجوم خطابات الدين أثناء خطابات أمر الدنيا ، فيكون خطاب الأمر نجما خلال خطابات الحرام والحلال في أمر الدنيا;

وإنما كان نجم هذا الخطاب للمحافظة على الصلاة لأن هذا الاشتجار المذكور بين الأزواج فيما يقع من تكره في الأنفس وتشاح في الأموال إنما وقع من تضييع المحافظة على الصلوات لأن الصلاة بركة في الرزق وسلاح على الأعداء وكراهة الشيطان; فهي دافعة للأمور التي منها تتضايق الأنفس وتقبل الوسواس ويطرقها الشح، فكان في إفهام نجم هذا الخطاب أثناء هذه الأحكام الأمر بالمحافظة على الصلوات لتجري أمورهم على سداد يغنيهم عن الارتباك في جملة هذه الأحكام – انتهى. 

*التحرير والتنوير المجلد الأول الجزء الثاني (ص 465  ) طبعة دار سحنون تونس ، وله – رحمه الله وجعل مثواه الجنة – بعد هذا ، كلام نفيس حري الاطلاع عليه وتأمله.

(1 ) : يقصد – رحمه الله – ما وضعه من عشر مقدمات في أول تفسيره قبل البدء بتفسير الفاتحة ، والمقدمة الثامنة تحمل عنوان ( اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها ) .

( 2 ) : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور برهان الدين البقاعي المجلد الأول ( ص 449 ) وما بعدها  ط 1 ، 1415 ،  دار الكتب العلمية .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

اترك تعليقاً