فقلت له : دفعه إلي رجل طيان، فقال : رجل طيان ، رجل طيان ، فنظرت إلى دموعه تتحدر من عينيه على لحيته , وقربني منه وأدناني .
فقلت : يا أمير المؤمنين إنه أوصاني أيضا وقال لي : اذا أوصلت إليه الخاتم فقل له : إنه يقرئك صاحب هذا الخاتم السلام ويقول لك : لا تموتن على سكرتك هذه فإنك إن مت على سكرتك هذه ندمت .
فقام واقفا على رجليه وضرب بنفسه على البساط وسقط عليه يتمرغ وهو يتقلب برأسه
ولحيته , ويقول : يا بني نصحت أباك حيا وميتا .
فقلت في نفسي : كأنه ابنه .!! ولم أشعر به , وأخذ يبكي بكاء طويلا ثم جلس , وجاءوا له بالماء فغسل وجهه ثم قال لي : كيف عرفته .؟
فقصصت عليه قصتي معه فبكى ثم قال : هذا أول مولود ولد لي . كان أبي المهدي قد ذكر لي أن يزوجني من زبيدة . فنظرت يوما إلى امرأة فعلق قلبي بها فتزوجتها سرا من أبي , وأولدتها هذا الولد , ثم أنفذتها ( أرسلتها ) إلى البصرة , ودفعت إليهما هذا الخاتم وأشياء كثيرة , وقلت لها : اكتمي نفسك فإذا بلغك أني قد قعدت للخلافة فأتيني , فلما قعدت للخلافة سألت عنهما , فذكر لي أنهما ماتا .ولم أعلم أن ابني باق منها . فأين دفنته .؟
فقلت : دفنته في مقابر عبد الله بن المبارك .
قال أمير المؤمنين : إن لي إليك حاجة إذا كان بعد المغرب وقفت لي حتى أخرج اليك متنكرا فتذهب بي إلى قبره لأزوره , فوقفت له وخرج والخدم حوله حتى وضع يده في يدي ، وأرجع الخدم , وسار معي إلى قبر الرجل , فما زال ليلته معظمها يبكي حتى اقترب الفجر ، وهو يقول : رحمك الله يا ولدي نصحت أباك حيا وميتا , فجعلت أبكي لبكائه رحمة له مني حتى طلع الفجر . ثم رجع حتى إذا دنا إلى الباب قال لي : قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم , وأمرت أن تجري عليك ، فاذا أنا مت أوصيت من يلي من بعدي أن يجري عليك ما بقي لك عقب ( أولاد) فان لك عليَّ حقاً بدفن ولدي .
فلما أراد أن يدخل الباب قال : انظر إلى ما أوصيت لك إذا طلعت الشمس .
فقلت : إن شاء الله , فرجعت من عنده ولم أعد اليه .
كتاب : تنبيه الغافلين تأليف ( الإمام أبي الليث نصر بن محمد الحنفي السمرقندي ت 373 ) طبعته دار ابن كثير بدمشق رد الله أمنها وعافيتها ،الطبعة الثالثة 1421 هـ . ويقع في (664 صفحة ) وباب الحكايات منه آخر باب فيه .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .