الجمعة السابعة عشرة / الخامس والعشرين من ربيع ثاني لعام 1439هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة المائتين والسبعين ( 270 ) في تعداد الجمع ، والسابعة عشرة ( 17 ) في عام ( 1439هـ ) وتوافق ( 25 / 4 / 1439 هـ ) بحسب التقويم .

مما لا يعرفه كثير منّا عن هارون الرشيد رحمه الله تعالى إن صحّت القصة :

قال الفقيه السمرقندي رحمه الله حدثنا أبي بإسناده عن عبدالله بن الفرج العابد قال :  خرجت يوما أطلب رجلا يرُمُّ لي شيئا في الدار ( أي : يصلح ) فأُشير إليَّ برجل حسن الوجه بين يديه : مروز و زنبيل ( أدوات العمل ) فقلت : أتعمل لي اليوم إلى الليل .؟
قال : نعم … , فقلت : بكم .؟ … , قال : بدرهم , ودانق ( عملة ذلك الزمن وهي سدس الدرهم )
فقلت له : قم .فقام , فعمل ذلك اليوم عمل ثلاثة رجال , ثم أتيته في اليوم الثاني فسألت عنه   ،  فقيل لي : ذلك الرجل لا يرى في الجمعة ( الأسبوع )  إلا يوما واحدا هو كذا .


فتربصت حتى جاء ذلك اليوم الذي وصفوه ثم جئت الرجل فإذا هو جالس وبين يديه أدواته   ، فقلت له : أتعمل لي .؟ قال : نعم . فقلت : بكم .؟ قال : بدرهم ودانق .
فقام فعمل ذلك اليوم بعمل ثلاثة رجال , فلما كان المساء وزنت له درهمين ودانقين , وأحببت أن أعلم ما عنده .

 فقال لي : ماهذا .؟ قلت : درهمان ودانقان .
قال : ألم أقل لك بدرهم ودانق.؟ لقد أفسدت علي أجرتي يا رجل . لست آخذ منك شيئا .
قال : فوزنت له درهما ودانقا . فأبى أن يأخذ وألححت عليه فقال : سبحان الله .!!
أقول : لا آخذ وتلح عليَّ , وأبى أن يأخذ ومضى .


فأقبلتْ علىَّ أهلي ( زوجتي ) قالت : فعل الله بك ، ما أردت من الرجل قد عمل لك عمل ثلاثة أيام وأفسدت عليه أجرته !! . قال : فجئت في اليوم الذي يأتي فيه أسال عن الرجل فقيل لي : إنه مريض . فاستدللت على بيته , فاستأذنت للدخول فأذن لي فدخلت عليه فاذا هو مبطون ( أي مريض ببطنه ) في خربة ليس في بيته شيء إلا ذلك ( المروز والزنبيل)
فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام . فقلت له : لي إليك حاجة , وتعرف فضل إدخال السرور على المؤمن , وأنا أحب أن تأتي إلى بيتي أمرضك . قال : أتحب ذلك .؟ قلت : نعم ………..

قال : آتيك بثلاث شرائط !! قلت : نعم.
قال : إحداها : ألا تعرض علي طعاما حتى أسألك! .  قلت : نعم
و الثانية : اذا مت أن تدفنني في كسائي هذا وجبتي هذه . قلت : نعم


وأما الثالثة فهي أشد منهما : وسأخبرك عنها ، فحملته إلى منزلي , عند الظهر , فلما أصبحت من الغد , ناداني : يا عبد الله فأتيته ، فقلت : ما شأنك .؟ قال : الآن أخبرك عن حاجتي الثالثة ، وإني قد احتضرت ( يعني : حضرتني الوفاة ) ثم قال : افتح صرة على كم جبتي , ففتحتها , فاذا فيها خاتم له فص أخضر فقال : اذا أنا مت ودفنتني فخذ هذا الخاتم , وادفعه إلى ( هارون الرشيد) أمير المؤمنين , وقل له : يقول لك صاحب هذا الخاتم  : ويحك لا تموتن على سكرتك هذه , فإنك إن مت على سكرتك ندمت على ذلك .
ثم قُبِضَت روحه ودفنته , فلما سألت عن يوم خروج ( هارون الرشيد )وعرفته ,كتبت له القصة , وتعرضت له فدفعتها إليه وتأذيت من ذلك أذى شديدا .
فلما دخل القصر وقرأ القصة قال : عليَّ بصاحب هذه الورقة , فأدخلت عليه فقال :ما شأنك .؟ فأخرجت الخاتم فلما نظر إلى الخاتم ، قال : من أين لك هذا.؟

فقلت له : دفعه إلي رجل طيان، فقال : رجل طيان ، رجل طيان ،  فنظرت إلى دموعه تتحدر من عينيه على لحيته , وقربني منه وأدناني  .

فقلت : يا أمير المؤمنين  إنه أوصاني أيضا وقال لي : اذا أوصلت إليه الخاتم فقل له : إنه يقرئك صاحب هذا الخاتم السلام ويقول لك : لا تموتن على سكرتك هذه فإنك إن مت على سكرتك هذه ندمت .
فقام واقفا على رجليه وضرب بنفسه على البساط وسقط عليه يتمرغ وهو يتقلب برأسه
ولحيته , ويقول : يا بني نصحت أباك حيا وميتا .
فقلت في نفسي : كأنه ابنه .!! ولم أشعر به , وأخذ يبكي بكاء طويلا ثم جلس , وجاءوا له بالماء فغسل وجهه ثم قال لي : كيف عرفته .؟
فقصصت عليه قصتي معه فبكى ثم قال : هذا أول مولود ولد لي . كان أبي المهدي قد ذكر لي أن يزوجني من زبيدة . فنظرت يوما إلى امرأة فعلق قلبي بها فتزوجتها سرا من أبي , وأولدتها هذا الولد , ثم أنفذتها ( أرسلتها ) إلى البصرة , ودفعت إليهما هذا الخاتم وأشياء كثيرة , وقلت لها : اكتمي نفسك فإذا بلغك أني قد قعدت للخلافة فأتيني , فلما قعدت للخلافة سألت عنهما , فذكر لي أنهما ماتا .ولم أعلم أن ابني باق منها . فأين دفنته .؟
فقلت : دفنته في مقابر عبد الله بن المبارك .
قال أمير المؤمنين : إن لي إليك حاجة إذا كان بعد المغرب وقفت لي حتى أخرج اليك متنكرا فتذهب بي إلى قبره لأزوره , فوقفت له وخرج والخدم حوله حتى وضع يده في يدي ،  وأرجع الخدم , وسار معي إلى قبر الرجل , فما زال ليلته معظمها يبكي حتى اقترب الفجر   ، وهو يقول : رحمك الله يا ولدي نصحت أباك حيا وميتا , فجعلت أبكي لبكائه رحمة له مني حتى طلع الفجر . ثم رجع حتى إذا  دنا إلى الباب  قال لي : قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم , وأمرت أن تجري عليك ، فاذا أنا مت أوصيت من يلي من بعدي أن يجري عليك ما بقي  لك عقب ( أولاد) فان لك عليَّ حقاً بدفن ولدي .
فلما أراد أن يدخل الباب قال : انظر إلى ما أوصيت لك إذا طلعت الشمس .
فقلت : إن شاء الله , فرجعت من عنده ولم أعد اليه .

كتاب : تنبيه الغافلين تأليف ( الإمام أبي الليث نصر بن محمد الحنفي السمرقندي ت 373 ) طبعته دار ابن كثير بدمشق رد الله أمنها وعافيتها  ،الطبعة الثالثة 1421 هـ  . ويقع في (664 صفحة ) وباب الحكايات منه آخر باب فيه .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

اترك تعليقاً