الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله :
من جرب تجربتي عرف معرفتي فإذا أنعم الله عليك بخزانة من الكتب فإنك تكاد تغفل عن بعض الكتيبات الصغيرة ذات الحجم الوسط فإن لم تلزم نفسك بين فينة وأخرى على تصفح عناوين كتبك فأجزم أنه سيفوتك الشيء الكثير من الخير الذي بين دفتيها ، وهذا الأسبوع قمت بجولة سريعة على جانب من أرفف الكتب فوجدت كتابا بعنوان( خواطر وعبر، لوحيد الدين خان) وكان مكان ووقت شرائه من مكتبة العبيكان فرع الدمام قبل خمسة عشر عاماً، فتصفحته لأعيد محتوياته لفكري ، فألفيته جميلا مختصرا ويصلح لأن يكون حديثنا اليوم في فلكه ، الكتاب من طباعة دار العبيكان ( قطع متوسط طبعته الأولى 1417 ) ويقع في (113صفحة ) وهو عبارة عن مقالات قصيرة أو بعبارة أخرى ( خواطر وعبر ) كتبها ( وحيد الدين خان وهذا الرجل كما في الشبكة العنكبوتية مفكر هندي مسلم تأثر كثيراً بأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي في أول نشأته ثم خالف و ناقش علميا وفكريا ضد إيديولوجيات المودودي في العديد من كتبه. وله موقف صريح ضده. ولقد كانت دعوتهُ قائمة على مهاجمة العنف وجماعات العنف المسلح، والدعوة لتبني المنهج العلمي في الدعوة.) وجاء كتابه هذا في ثلاثة أقسام : ( الباب الأول : أسرار النجاح في الحياة وفيه أربع عشرة خاطرة ، والباب الثاني : الحياة المسلمة وفيه إحدى وعشرون مقالة ، والباب الثالث : دروس في التاريخ وفيه إحدى عشرة مقالة ) ومما جاء من الباب الثالث : في مقالة حملت عنوان : ” هل سنصبح آثارا نُزارُ ” ؟
أتذكر منظرا في لكنَاوْ حيث توجد حديقة باسم ” بيلي غارد ” وكانت “بيري غارد” هذه قلعة الملك “واجد على شاه” آخر ملك مسلم على لكناوْ، وقد انهزم عقب معركة مع الإنجليز و كان الذي يدير المعركة “الكولونيل بيلي ” وباسمه عرفت هذه الحديقة العامة ، وكان الإنجليز قد ضربوا القلعة بالمدافع الثقيلة حتى تهدمت جدرانها و كان هناك مسجد داخل القلعة وقد أصيب هو الآخر في هذه المعركة وتضعضعت منارتاه و حدثت شقوق في جدرانه . و اليوم لو شاهدت مسجد “بيلي غارد” لوجدت أن منارتيه الكبيرتين مربوطتان بالحديد ، لقد ربطوا المنارتين بالحديد لكي لا يتساقطا نتيجة التصدع الذي تسببت فيه القنابل التي دكتهما ، فيقومان مقامهما كأن شيئا لم يكن .
وهذا المنظر يحمل لنا عبرة .
فمعنى هذا أن منارة الإسلام أو – المسجد – حين كانت تقف موقف التحدي من الأعداء لم يتوانوا عن ضربها بالمدفع ، ولكنها حين أصبحت أثرا من الآثار القديمة ، أصبح محافظوها هم عين الذين كانوا يريدون تدميرها من قبل .
ولذلك أقول لكم : إننا لو كنا قانعين بأن نعيش في سوق الحياة كسلع وآثار ، فلا ضرورة للقيام بأي عمل أو حتى الشعور بأي خوف ، وذلك لأن العالم مستعد لوضعنا في ” فاترينات ” الزجاج كآثار قديمة .
بعض الناس يطمئنون بأن الدين موجود وبخير حين يجدون الناس يرتادون التكايا الصوفية ، وبعض الناس مسرورون لأنهم يزيدون من عدد المصلين في الجوامع ، وبعضهم يعتبرونه انتصارا للإسلام لو فتحوا بعض الكتاتيب وجمعوا الأطفال وعلموهم بعض كتب الدين .
إن كل هذه الأعمال أعمال دينية مطلوبة ومقبولة ، وأنا أشارك سعادة القائمين بها ، ولكننا لو اقتنعنا لأنفسنا بهذا المقام ، فمعنى ذلك أننا نقتنع بمقام الخفاش من حركة الحياة ( ؟! ) .
هل خلق الله هذه الدنيا الواسعة لنسلّم أمرها للآخرين ونجلس في زوايا الجوامع والتكايا الصوفية ؟ هل جاء دين الله لإيصالنا إلى مركز الخفاش في الحياة ؟ …
لقد خلق الله عالمه واسعا وفسيحا ، ودنياه تحفل بأنشطة هائلة . هل لا مجال لدين الله في أنشطة دنياه ؟ هل الإسلام لا علاقة له بالمؤسسات العلمية ؟ هل الإسلام بمعزل عن البطولات الفكرية ؟ هل الاكتشافات العلمية لم تخلق مشكلات في وجه دين الله وفي وجه المسلمين ؟
أعتقد أنها ستكون غفلة كبرى لو أجبنا عن هذه الأسئلة بالنفي .
إنها ليست غفلة فحسب وإنما هي جريمة ، فمعناه أننا نحدد مجالات دين الله فرارا من امتحان الحياة العملي .
وفي مقال بعده بعنوان ( قدوة لا سبيل إلى قهرها ) خلاصته : أن المؤرخ العظيم ابن خلدون كان في دمشق لما حاصرها التتار بقيادة تيمور سنة” 1400م ” بل طلبه في معسكره فظن أهل دمشق أنه يريد الصلح فأنزلوه إليه بالحبال ، فأكرمه غاية الإكرام و بقي عنده سبعة أسابيع وسمح له بالذهاب لمصر وكان يريد منه خريطة مفصلة للشمال الأفريقي لمعرفته بعلو كعبه كعالم في التاريخ والجغرافيا ، وكان يريد أن يستفيد منه ليوسع رقعة بلاده ( أقولُ : وغنيٌ عن القول أنه دمر دمشق وأحرق جامعها الكبير ) .. ( وخلاصة المقال ) ما قاله وحيد في ختمه :
لو أثبت الإنسان فائدته سيصبح محترما في أنظار الكل ، بل وحتى في نظر عدوه الظالم الفتاك ، فكونك مفيدا ونافعا يجعل حتى الوحوش يكرمونك ، وينحني أمامك حتى الملوك .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد