السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
من حكايات مجلسنا بمزرعتنا عسيلة – عمرها الله بالطاعة – مما هو معروف أنه في القرن الماضي مر على الجزيرة لأواء عامة شديدة ، – نسأل الله تعالى أن يعوض أهلنا بالجنة – وتناقل الناسُ ما كان قبل ( 110 سنوات عام 1328 هـ ) سنة الجوع ، وما كان قبل ( 101 سنة 1337 هـ ) وتسمى سنة الرحمة حيث ابتلى الله الحكيم الناس بالجوع ومرض الطاعون أو الكوليرا ، وفناء الناس فيها ، وممن صور فاجعة من هذه الفواجع الأديب عزيز ضياء في كتاب ( حياتي مع الحب والجوع والخوف ) وبما تعرضت له المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم في وقت الحرب العالمية الأولى ، وترحيل أهلها إلى الشام .
وقد أصاب نجد ما أصاب هذه الجزيرة الحبيبة ولم يكن القصيم بمعزل عما حدث ، وهذا حال الدنيا فيها شدة ورخاء ، وقد يكون الابتلاء عاما وقد يكون خاصا لبعض الناس ، ومما حكى أشياخنا عن بعض صور هذه الشدة الخاصة التي أصابت بعض الرجال والنساء في بلدتي الخبراء ما حكاه لنا العم ( أبو حمد صالح بن حمد الطاسان – أمد الله بعمره على صحة وعمل صالح وختم الله لنا وله بخير – في ليلة الأربعاء ( الثاني من شهر جمادى الآخرة من عام ألف وأربع مائة وثمانية وثلاثين للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم ) ، تقريبا في خمسينات وستينيات القرن المنصرم * عن رجل كريم – عليه رحمات الله وعلى كل مسلم – و من عائلة كريمة وهو العم ( محمد الهذلول ) المعروف ب( الحُمَيْدِي ) ويلقب ب ( الأُحيدي ) ، يقول الحميدي : كنت وأخي عبدالله في مزرعة الغَزِّيَّة ، ( قال أبو حكيم : والغزية من المزارع القِبْلِيَّة بالخبراء ويفصل بينها وبين الخزيمة طريق مسفلت ويصلون في مسجد واحد في الخزيمية وقد أميتهم أول ما أميت الناس في التراويح في سنتين متتاليتين قبل ثلاث وثلاثين سنة ،وقد صلى خلفي الشيخ أبو محمد حسين الهذلول – متّع الله به على عمل صالح وختم الله له بخير وهو من يَفْلَحُ الغزية ويتخذها سكنا الآن ، والشيخ عبدالله التركي العقلاء صاحب الخزيمية وأبو عيادة راشد المعروف بالرشق ، وكلهم أشياخ قد أسنوا متع الله بهم على عمل صالح وختم الله لنا ولهم بخير .
يقول الحميدي رحمه الله : وكنا في شدة وجوع ، فليس عندنا ما نأكل ، فأخذت جملي ( لأحش ) عليه ( يجمع من نبات الصحراء ليبيعه ) ، فمررت على الديرة ( يقصد قرية الخبراء التراثية الآن ) وقصدتُ أحد أصحاب الدكاكين ( قال أبو حكيم : ومنعاً لشحناء الصدور لن أذكر اسمه ، غفر الله لنا وله ) ، فطلبتُ منه تمرا ( بنصف ريال ) ، فقام بتنظيف كفتي ميزانه ووزن التمر فقلت له : النصف ليس معي الآن -ويأتي إن شاء الله – ، فألقى التمر على ( العْرُمْة هكذا بلهجتنا أهل القصيم ) أي : أعاد التمر إلى مجموعته ، وقال ( البائع ) : ( اِتْعَيَّي العتبة ) : ويقصد بها لا أبيعك بالدَّين ، ( وكان بعض الناس يضن ببضاعته عمن يظن أنه لا يستطيع وفاءا ) فخرجت للصحراء فأنختُ جملي ونزلت لأحش ، فما استطعت أن أنجز شيئا من الجوع ، فقام جملي ومشى ( يَهْدِرُ ) ، إذ قد رأى جمالاً فاتجه إليها ، فتبعته لأرده عنها ، حتى وصلتُ لأصحابها فإذا أحدهما من أهل البلد من سكان رياض الخبراء ( من عائلة النجاشي ) ويعرف ( بأبي طُريخم ) ، فلما رأى ما بي وعرف الجوع في وجهي ، نادني ، ووضع القِرَى بإناء فيه تمر ، وقال :تعال وكل ، فقلت: حياءً إني أريد أن أحشَّ ، فقال : حُشَّ من هنا بعد أن تأكل ، فقلت : يذهب الجمل ، فقال : لن يذهب عن ( أَلايفُه ) (أي : لن يبتعد عن الجمال )، فقبلتُ دعوتهما ، وجلستُ فأكلتُ حتى شبعتُ ، ثم شربنا القهوة ، ثم بدأت بالحشِ ، فجاء عمل غير العمل ، لِـَما منَّ الله به من الشبع بعد الجوع وأنجزت شيئا كثيرا لما ابتلت العروق ، وكانا قالا لي : لا تذهب الليلة وتعش معنا ، -وكان العشاء قبيل المغرب – ، ففعلتُ ، ونمنا في محلنا ، فلما أصبحنا ، حششتُ قطبة أو قطبتين ، ( قال أبو حكيم : والقطبة عبارة عن كساء يحمل به الحشيش و يوضع على البعير ) وحمّلتُ جملي ثم قصدتُ الرس ، لبيع حِملي ، فقابلني رجل كريم ذومال من أهل الرس يعرف ب(داش ) فغرز مخصرته بالقطبة ، فوجدها ممتلئة قد اتكأت للعصا ، فقال : إني آخذ من جماعتك القَطْبَة بريالين ، ولكن لله ، هذه ليست كما عندهم ، فإن بعتني بأربع ريالات ، فالحق إلى الدار ، فقلت : نصيبك ، وتبعته لداره وأنزلت الحمولة ، فقال : المال في الدكان في السوق ، نذهب إليه لنُوَفِّيك ، فقلت : نعم ، غير أني لا أريد دراهما ، بل أريد بالقيمة بضاعة من محلك ، فقال : حبا وكرامة ، فاشتريت منه كساء لأم العيال ، وتمرا وقهوة ، وحمَّلتُ الجمل وعدت للخبراء فلما أشرفت على ( الغَزِّيِّة ) من التَّلعة المشرفة عليها ، صحتُ بأعلى صوتي بأخي عبدالله: يا عبدالله : مِنّة الله ولا مِنَّة فلان ( يقصد من رفض بيع التمر عليه يوم أمس ) شب النار .
نسأل الله أن يطعمنا وإياهم من ثمار الجنة . والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
*راسلني الأستاذ إبراهيم بن صالح العريني أبو فيصل نزيل البدائع – بعد نشر المقال في الواتس أب أنه أرسل المقال لزميل له اسمه حسن الهذلول فأفاد أنه ابن لهذا الرجل الحميدي رحمه الله ) وأن الحادثة كانت في حدود سنة 1352 للهجرة