. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : الحمد الله الذي بلغنا رمضان ونسأله الإعانة والقبول .
بما أن رمضان هو الظرف الزماني لنزول القرآن كما يقول أبو عمر إبراهيم السكران في كتابه القيم ( الطريق إلى القرآن ) فستكون هذه المختارة عن القرآن ومستلة من مجموعة الفتاوى لابن تيمية -رحمه الله – وهي أشهر من أن تُعرَّف والطبعة التي بين يدي طبعة دار العبيكان الطبعة الأولى ( 1419 ) وتقع في عشرين مجلدا بالفهارس أعتنى بها وخرج أحاديثها ( عامر الجرار وأنور الباز ) . في المجلد الثاني عشر ( فقه الصلاة والزكاة ) ( ص 83 ) : وَقَال شيخ الإِسلام:
فصل في سجود القرآن وهو نوعان: خبر عن أهل السجود، ومدح لهم، أو أمر به، وذم على تركه.
فالأول سجدة ( الأعراف ) : ( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ( ( 206 ) ، وهذا ذكره بعد الأمر باستماع القرآن والذكر.
وفي (الرعد ) : ) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ )( 15) وفي ( النحل ) : ) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ( 48 – 50 ) ، وفي ( سبحان ) : ( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَي عليهمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) ( الإسراء 107 ) ، وهذا خبر عن سجود مع من سمع القرآن فسجد.
وكذلك في ( مريم ) : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عليهمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) ( 58 ) ، فهؤلاء الأنبياء سجدوا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن ، وأولئك الذين أوتوا العلم من قبل القرآن إذا يتلي عليهم القرآن يسجدون .
وظاهر هذا سجود مطلق كسجود السحرة، وكقوله: ( وَادْخُلُواْ الْباب سُجَّدا وَقُولُواْ حِطَّةٌ ) ( البقرة 58 ) وإن كان المراد به الركوع.
فالسجود هو خضوع له وذل له ؛ ولهذا يعبر به عن الخضوع. كما قال الشاعر:
ترى الأُكُم فيها سجدا للحوافر
قال جماعة من أهل اللغة: السجود التواضع والخضوع وأنشدوا:
ساجد المنخر ما يرفعه ** خاشع الطرف أصم المسمع
قيل لسهل بن عبد الله: أيسجد القلب؟ قال: نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا.
وفي سورة ( الحج ) الأولى خبر: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ) ( 18 ) ، والثانية : أمر مقرون بالركوع ؛ ولهذا صار فيها نزاع.
( قال المحقق : يشير ابن تيمية رحمه الله إلى الآية السابعة والسبعين من سورة الحج )
وسجدة (الفرقان ): ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) ( 60 ) خبر مقرون بذم من أمر بالسجود فلم يسجد، ليس هو مدحا. وكذلك سجدة (النمل ) : ( وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) ( 24 – 26 ) ، خبر يتضمن ذم من يسجد لغير الله، ولم يسجد للَّه. ومن قرأ: ( ألا يا اسجدوا ) ، كانت أمرا.
وفي ( ألم تنزيل السجدة ) : ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) ( 15 ) ، وهذا من أبلغ الأمر والتخصيص ؛ فإنه نفي الإيمان عمن ذكر بآيات ربه ولم يسجد إذا ذكر بها.
وفي ( ص ): خبر عن سجدة داود، وسماها ركوعا
( قال المحقق : يشير ابن تيمية – رحمه الله – إلى الآية الرابعة والعشرين من سورة ص ) .، و( حم تنزيل) أمر صريح : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ) ( فصلت 37 – 38 ) ، و( النجم ) أمر صريح : ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ( 62 ) ، و (الانشقاق ) أمر صريح عند سماع القرآن : ( فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عليهمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ) (20 – 21 ) ، و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ، أمر مطلق : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) العلق 19 ) فالستة الأُوَل إلى الأولى من ( الحج ) خبر ومدح.
والتسع البواقي من الثانية من ( الحج ) أمر وذم لمن لم يسجد، إلا ( ص ) .
فنقول: قد تنازع الناس في وجوب سجود التلاوة. قيل: يجب. وقيل: لا يجب. وقيل: يجب إذا قرئت السجدة في الصلاة، وهو رواية عن أحمد . والذي يتبين لي أنه واجب: فإن الآيات التي فيها مدح لا تدل بمجردها على الوجوب؛ لكن آيات الأمر والذم والمطلق منها قد يقال: إنه محمول على الصلاة، كالثانية من الحج، والفرقان، واقرأ، وهذا ضعيف، فكيف وفيها مقرون بالتلاوة كقوله: { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ) ( السجدة 15 ) ، فهذا نفي للإيمان بالآيات عمن لا يخر ساجدا إذا ذكر بها، وإذا كان سامعا لها، فقد ذكر بها.
قال أبو حكيم : ( ثم أطال في بيان السجود وكيفيته مما يعسر شرحه وفهمه ( في مختارة كهذه ومن أراده فمن ص 85 وما بعدها في طبعة الفتاوى المذكورة أنفا ).
وختاما : شيخنا عبدالعزيز بن محمد السدحان قد جمع بحثا قيما باسم ( التبيان في سجدات القرآن ) الطبعة الأولى عام ( 1409 ) من دار ( المنار بالخرج ، و دار ابن خزيمة بالرياض ) ، وقد علق على بعض الكتاب سماحة العلامة (ابن باز – رحمه الله – وقرأه العلامة ابن جبرين -رحمه الله – ) ومما جاء فيه ( في ص 17 ) : حكم سجود التلاوة الإجماع على مشروعيته : عند الجمهور أنه سنة وعند الأحناف أنه واجب . قال أبوحكيم : ويرى شيخنا ابن باز – عليه رحمة الله – عدم وجوبه كما بينه المؤلف في بحثه . والبحث قد جمع ما يتعلق بسجود التلاوة بالأدلة مع الترجيح .
والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد