الجمعة العشرين / السابع عشر من جمادي الاول لعام 1437هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة الثانية والسبعين بعد المائة (172) في تعداد الجمع ، و العشرين ( 20) في عام ( 1437هـ ) وتوافق (1437 / جمادى الأولى /17 ) بحسب التقويم .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كيف أصبحتم يا سادة  ، وإن كنتم في المساء فأقول كما قال الشاعر لأمير العراق المهلبي  ولست مثله – إن شاء الله – فصباح الخير أيضا

صبحته عند المساء فقال لي   …    ماذا الصباح وظن ذاك مزاحا

فأجبته إشراق وجهك غرني   …  حتى توهمت( تبينت ) المساء صباحا

الدكتور سعد سعود الكريباني  أخرج لنا كتابا جميلا ظريفا  مختصرا طبعته دار العبيكان  ووسم كتبه ب ( هكذا أصبحوا عظماء ) ضمنه جملة قصص ، وطريقته كما قال في مقدمته : ( كنت على علم ويقين أن خير الناس وسيد ولد آدم وأشرف وأعظم من مشى على الأرض هو نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  ، ولكني لم أشأ أن يقول القائل : هذا رسول  مؤيد من السماء يرعاه الله ويحفظه في كل خطوة يخطوها فكيف نصل إلى ما وصل إليه ؟ ولذا جعلت (أبطالي ) ، كما سترى لا ملكا بينهم ولا رسولا .

(قال أبو حكيم  : لعله يقصد أبطال كتابه وإلا في كتابه من لا يكون بطلا  إلا بمقاييس الدنيا الفانية ، وليست لحي وطنا ، ولأن البطل يكون قدوة للمسلم  ، وكيف يكونون أبطالا قدوات  ،  وقد  حُرموا عبادة الله على شرعة نبينا صلى الله عليه وسلم  فالفوز الحقيقي مع الله ) .

لتعلم أني قد كتبت الكتاب من أجل الشباب ، من أجل أن ينهض التاريخ بسواعدهم ، وأن تسموا بهمتهم أوطانهم ، فإن كنت من هؤلاء الشباب ، فهذا كتابي بين يديك ، قد جعلت قصصه سهلة العبارة ، متتابعة الأحداث ، لعلك تجد فيها الأنس والمتعة والفائدة .   وإن كنت مربيا ( أبا ، معلما … ) فهو لك أيضا تجعله مدادا لما عندك  من قصص وعبر ، تأمل بها أن تنهض بهمة من تعول ومن تربي . لكم أيها الشباب كتبته .. كتبته لمن أحب .

ومن قصصه ( أعني الكريباني ) ما ذكره في ( ص 125 ) عن ( محمد بن إسماعيل الخياط ) ، وذكر هذه القصة شيخنا الطنطاوي رحمه الله في كتابه ( فكر ومباحث ) في ص ( 131 – 133 ) طبعة دار المنارة للنشر والتوزيع  في فصل التشجيع – وهو فصل ممتع غاية الإمتاع كما هو على الدوام قلم الطنطاوي -رحمه الله –   وإليكموها بقلمه -رحمه الله – : (نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك عاميًّا، ولكنه محب للعلم، محب للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يُواظب على الدرس لا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به؛ لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشدَّ ذلك عن عزمه، فاشترى الكتب يُحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على

ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهرًا حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحدَ زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها؛ وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مُشكلات المسائل، وعَوِيصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحولة العلماء، وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي؛ فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في ” القيمرية ” وهو على أتان له بيضاء( قال أبو حكيم هي أنثى الحمار ) ، فيسلم فيردون عليه السلام، فمرَّ يومًا كما كان يمر، فوجد على الباب أخًا  للمفتي، فرد عليه السلام، وقال له ساخرًا: إلى أين يا شيخ؟ أذاهبٌ أنت إلى (إسطمبول) لتأتي بولاية الإفتاء؟  وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال:إن شاء الله!  وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنهم، دارَ في الأزقَّة حتى عاد إلى داره، فودَّع أهله، وأعطاهم نفقتهم، وسافر! وما زال يفارق بلدًا، ويستقبل بلدًا، حتى دخل القسطنطينية، فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب، أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيِّه أنه عربي؛ فيحترمونه ويجلونه، ولم يكن التُّرْك قد جُنُّوا الجُنة الكبرى بعدُ… فكانوا يعظمون العربي؛ لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناسًا…

واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم، فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يومًا رجل منهم: إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيَّرتْ علماءها، ولم يجدوا له جوابًا، والسلطان يستحثُّهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب؟   قال: نعم.     قال: سِرْ معي إلى المشيخة.     قال: باسم الله.  ودخَلوا على ناموس المشيخة (سكرتيرها)، فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة، فرفع رأسه فقلَّب بصره فيه بازدراء – ولم تكن هيئة الشيخ بالتي تُرضي – ثم ألقاها إليه وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظَّارته فوضعها على عينه، فقرأ المسألة، ثم أخرج من منطقته هذه الدواة النحاسية الطويلة، التي  كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة وللدفاع عن النفس، فاستخرج منه قصبةً فبَراها، وأخذ المقطع فقطَّعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل، حتى سوَّد عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام، وقرأها كاد يقضي دهشة وسرورًا.    قال له: ويحك! مَن كتب هذا الجواب؟    قال: شيخ شامي، من صفته كيت وكيت…       قال: عليَّ به.

فدعوه، وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعًا يده على صدره، منحنيًا، ثم يمشي متباطئًا حتى يقوم بين يديه… إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ، ولم يحفظ منها شيئًا.

ودخل على شيخ الإسلام، فقال له:   السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله، ولكن شيخ الإسلام سُرَّ بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله حتى قال له: سلني حاجتك؟   قال: إفتاء الشام وتدريس القبة.   قال: هما لك، فاغدُ عليَّ غدًا!     فلما كان من الغد ذهب إليه، فأعطاه فرمان التولية، وكيسًا فيه ألف دينار، وعاد الشيخ إلى دمشق، فركب أتانه، ودار حتى مرَّ بدار العماديين، فإذا صاحبنا على الباب، فسَخِر منه كما سخر وقال:من أين يا شيخ؟

  • فقال الشيخ: من هنا، من إسطنبول، أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني، ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، فركع له وسجد ( قال أبو حكيم : قصد الشيخ أن الوالي انصاع لأمر الخلافة ) وسلِّـم الشيخ عمله في حفلة حافلة.

والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد 

 

اترك تعليقاً