الجمعة الحادية والاربعين / التاسع عشر من شوال 1435هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة الثانية و التسعين ( 92 ) في تعداد الجمع ، والجمعة الحادية الأربعين ( 41 ) من عام 1435 هـ وتوافق (1435 / 10 / 19 ) بحسب الرؤية ، والتقويم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ذكر ابن كثير في تاريخه ( البداية والنهاية )  ممن مات من المشاهير في سنة ( 328 هـ ) ( ابن مقلة ) نقل هذه المأساة في خاتمة حياته ، فسبحان من له البقاء والدوام

(ابن مقلة) الوزير أحد الكتاب المشاهير (محمد بن علي بن الحسن بن عبدالله أبو علي المعروف بابن مُقلة الوزير)  ، وقد كان أول عمره ضعيف الحال ، ثم آل به الحال إلى أن ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء – العباسيين – وهم ( المقتدر، والقاهر ، والراضي ) ، وعزل ثلاث مرات وقطعت يده ولسانه في آخر مرة وحبس !! فكان يستقى الماء بيده اليسرى وأسنانه ( لأنه حبس منفردا ) ، وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى بعد قطعها كما كان يكتب بها وهي صحيحة ، وقد كان خطه من أقوى الخطوط ، كما هو مشهور عنه وقد بنى له دارا في زمن وزارته ، فجمع عند بنائها خلقا من المنجمين !! فاتفقوا على أن تبنى في الوقت الفلاني ، فأسس جدرانها بين العشاءين كما أشاروا ، فما لبث بعد استمامها إلا يسيرا حتى خربت وصارا كوما ، وقد كان له بستان كبير جدا فيه عدة أجربة – أي فدادين- وكان عليه جميعه شبكة من إبريسم ( قال أبو حكيم : الإبريسم الحرير ) ، وفيه من الطيور القماري والهزار والببغ والبلابل والطواويس والقبج شيء كثير ( قال أبو حكيم : القبج طائر رخيم الصوت جميله في جبال إقليم كوردستان في شمال العراق اليوم ويذكر أن لحمه من ألذ لحوم الطير لنظافة أكله فهو لا يأكل إلا الحبوب أو النباتات البرية ) ، وفي أرضه من الغزلان وبقر الوحش وحميره والأنعام والإبل شيء كثير أيضا .

ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهاء إلى الهلاك والفناء ، وقد أنشد بعض الشعراء حين بنى داره :

قل لابن مقلة مهلا لا تكن عجلا        …         واصبر فإنك في أضغاث أحلام

تبني بأنقاض دور الناس مجتهدا        …         دارا ستُنقض أيضا بعد أيام

ما زلت تختار سعد المشترى لها     ….           فلم توَّق بها من نحس بهرام

إن القرَان وبطليموس ما اجتمعا       …          في حال نقض ولا في حال إبرام

فعُزل ابن مقلة عن وزارته ، وخرِّبت داره ، وأُتلفت أشجاره ، وقطعت يده ، ثم قطع لسانه ، وأغرم بألف ألف دينار (قال أبو حكيم :هو المليون ) ، ثم سجن وحده مع الكبر والضعف والضرورة ، فكان يستقى الماء لنفسه من بئر عميقة ، فكان يمد الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه ، وقاسى جهدا جهيدا بعدما ذاق عيشا رغيدا ومن شعره حين قطعت يده :

ما سئمت الحياة لكن توثقت       …         بأيمانهم فبانت يميني

بعت ديني لهم  بدنياي حتى      ….       حرموني دنياهم بعد ديني

ولقد حُطت ما استطعت بجَهدي   …      حفظ أرواحهم فما حفظوني

ليس بعد اليمين لذ عيش           …        يا حياتي بانت يميني فبيني

وكان يبكي على يده كثيرا ، ويقول بعدما خدمت بها ثلاثة من الخلفاء ، وكتبت بها القرآن مرتين تقطع كما تقطع يد اللصوص ! ثم أنشد :

إذا ما مات بعضك فابك بعضا  …     فإن البعض من بعض قريب

وقد مات رحمه الله في محبسه هذا ، ودفن في دار السلطان ، ثم سأل ولده أبو الحسن أن يحول فأجيب ، فنبشوه ودفنه ولده عنده في داره ، ثم سألت زوجته المعروفة بالدينارية أن يدفن في دارها فنبش ودفن عندها ، فهذه ثلاث مرات أيضا . مات رحمه الله وله من العمر ست وخمسون سنة .

تاريخ ابن كثير المجلد السادس ( ص 269 )  طبعة دار بن رجب الطبعة الأولى عام ( 1425 هـ )

والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .

ملحق للمختارة لم ينشر 

وقصة قطع يده مبسوطة في الكامل لابن الأثير (حوادث سنة 327):  من موقع ملتقى أهل الحديث
ذكر قطع يد ابن مقلة ولسانه
في هذه السنة، في منتصف شوال، قطعت يد الوزير أبي عليّ بن مقلة.
وكان سبب قطعها أن الوزير أبا الفتح بن جعفر بن الفرات لما عجز عن الوزارة وسار إلى الشام استوزر الخليفة الراضي بالله أبا علي بن مقلة، وليس له من الأمر شيء إنما الأمر جميعه إلى ابن رائق، وكان ابن رائق قبض أموال ابن مقلة وأملاكه، وأملاك ابنه، فخاطبه فلم يردها، فاستمال أصحابه، وسألهم مخاطبته في ردها، فوعدوه، فلم يقضوا حاجته، فلما رأى ذلك سعى بابن رائق، فكاتب بجكم يطمعه في موضع ابن رائق، وكتب إلى وشمكير بمثل ذلك، وهو بالري، وكتب إلى الراضي يشير عليه بالقبض على ابن رائق وأصحابه ويضمن أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار، وأشار عليه باستدعاء بجكم وإقامته مقام ابن رائق، فأطمعه الراضي وهو كاره لما قاله، فعجل ابن مقلة وكتب إلى بجكم يعرفه إجابة الراضي، ويستحثه على الحركة والمجيء إلى بغداد.
وطلب ابن مقلة من الراضي أن ينتقل ويقيم عنده بدار الخلافة إلى أن يتم على ابن رائق ما اتفقا عليه، فأذن له في ذلك، فحضر متنكراً ليلة من رمضان، وقال: أن القمر تحت الشعاع، وهو يصلح للأسرار؛ فكان عقوبته حيث نظر إلى غير الله أن ذاع سره وشهر أمره، فلما حصل بدار الخليفة لم يوصله الراضي إليه، واعتقله في حجرة، فلما كان الغد أنفذ إلى ابن رائق يعرفه الحال، ويعرض عليه خط ابن مقلة، فشكر الراضي، وما زالت الرسل تتردد بينهما في معنى ابن مقلة إلى منتصف شوال، فأُخرج ابن مقلة من محبسه، وقطعت يده ثم عولج فبرأ، فعاد يكاتب الراضي، ويخطب الوزارة، ويذكر أن قطع يده لم يمنعه من عمله، وكان يشد القلم على يده المقطوعة ويكتب.

فلما قرب بجكم من بغداد سمع الخدم يتحدثون بذلك، فقال: أن وصل بجكم فهو يخلصني، وأكافئ ابن رائق؛ وصار يدعو على من ظلمه وقطع يده، فوصل خبره إلى الراضي وإلى ابن رائق، فأمرا بقطع لسانه، ثم نقل إلى محبس ضيق، ثم لحقه ذرب في الحبس، ولم يكن عنده من يخدمه، فآل به الحال إلى أن كان يستقي الماء من البئر بيده اليسرى ويمسك الحبل بفيه، ولحقه شقاء شديد إلى أن مات ودفن بدار الخليفة، ثم إن أهله سألوا فيه، فنبش وسلم إليهم، فدفنوه في داره، ثم نبش فنقل إلى دار أخرى.
ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاث دفعات، ووزر لثلاثة خلفاء، وسافر ثلاث سفرات: اثنتين منفياً إلى شيراز، وواحدة في وزارته إلى الموصل، ودفن بعد موته ثلاث مرات وخص به من خدمة ثلاثة.

 والله أعلم وأحكم

اترك تعليقاً