الجمعة الخامسة عشر / الثاني عشر من ربيع ثاني لعام 1437هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة السابعة والستين بعد المائة (167) في تعداد الجمع ، وهي الخامسة عشرة ( 15) في عام ( 1437هـ ) وتوافق (1437 / ربيع الآخر /12 ) بحسب التقويم .

الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد :  ( فائدة طويلة فلا ترهب طولها وتترك جم فوائدها )

شيخنا ابن القيم رحمه الله تعالى المتوفى  عام ( 751 هـ ) ألف مما ألف كتاب ( جَلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام ) والنسخة التي بيت يدي ، ضبط نصها وعلق عليها وخرج أحاديثها الشيخ (  أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان   – عَمَّان الأردن ) وطبعتها دار بن الجوزي بالدمام حرسه الله وباقي بلاد المسلمين ، الطبعة الثانية ( 1419 هـ)

ومما قيل في الكتاب  :   ( هو كتاب فرد في معناه  ، لم أسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها )  ابن القيم .

( مخبر الكتاب فوق وصفه ) ابن القيم في الزاد .

(أتينا فيه من الفوائد بما يساوي أدناها رحلة مما لا يوجد في غيره ) ابن القيم في بدائع الفوائد  .

( وفي الجملة فأحسنها وأكثرها فوائد ” جلاء الأفهام ) ، ( وهو جليل في معناه )   السخاوي في القول البديع .

ومما جاء في الكتاب في الباب الثالث الفصل الأول ص (236 )  : ( في افتتاح صلاة المصلي بقوله ” اللهم ” ومعنى ذلك ” :

 لا خلاف أن لفظة “اللهم ” معناها  ” يا الله ” ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب ، فلا يقال : اللهم غفور رحيم ، بل يقال : اللهم اغفر لي ، وارحمني  .

واختلف النحاة في الميم المشددة من آخر الاسم …. قال أبو حكيم : ( ثم شُدَّ المئزر واكشف عن ساعد الجد  مع ابن القيم – رحمه الله – واستعرض أقوال النحاة ، في نفس طويل ، وتحقيق بديع من قول لسيبويه والخليل  وردود البصريين …

ثم قال ابن القيم رحمه الله : وقيل : زيدت الميم للتفخيم والتعظيم ، كزيادتها في ( زُرْقُم ) لشديد الزرقة  ، و ( ابنم ) في الابن ، وهذا القول صحيح ولكن يحتاج إلى تتمة ، وقائله لاحظ معنى صحيحا لا بد من بيانه ، وهو : أن الميم تدل على الجمع،  وتقتضيه

، ومخرجها يقتضي ذلك  ، وهذا مطرد على أصل من أثبت المناسبة بين اللفظ والمعنى ، كما هو مذهب  أساطين العربية وعقد له (أبو الفتح بن جني ) بابا في ( الخصائص ) وذكره عن  (سيبويه) ، واستدل عليه بأنواع من تناسب اللفظ والمعنى …ثم ذكر شواهد  ومن ذلك قوله : ( تأمل قولهم : دار دورانا  ، وفارت القدر فورانا ، وغلت غليانا ) ، كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر ( قال أبو حكيم : يقصد بالمصادر ( دَوَرَانَا و فَوَرَانَا وغَلَيَانَا ))  ،  لتتابع حركات المسمى ، فطابق اللفظ المعنى ، وتأمل قولهم : (  حجر وهواء ) ، كيف وضعوا للمعنى الثقيل الشديد هذه الحروف الشديدة  ، ووضعوا للمعنى الخفيف هذه الحروف الهوائية التي هي من أخف الحروف  ، وهذا أكثر من أن يحاط به …


ومثل هذه المعاني يستدعي لطافة ذهن  ، ورقة طبع ، ولا تأتي مع غلظ القلوب ، والرضى بأوائل مسائل النحو والتصريف دون تأملها ، وتدبرها ، والنظر إلى حكمة الواضع ومطالعة ما في هذه اللغة الباهرة من الأسرار التي تدق على أكثر العقول ، وهذا باب ينبه الفاضل على ما وراءه ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) ( النور 40 )، وانظر إلى تسميتهم الغليظ الجافي ( بالعُتل ) و( الجعظري ) و( الجواظ ) كيف تجد هذه الألفاظ تنادي على ما تحتها من المعاني ، وانظر إلى تسميتهم الطويل ( بالعشنَّق )  وتأمل اقتضاء هذه الحروف ومناسبتها لمعنى الطويل ، وتسميتهم القصير ( بالبُحْتُر ) وموالاتهم بين ثلاث فتحات في اسم الطويل ، وهو ( العَشَنَّق ) وإتيانهم بضمتين بينهما سكون في (البُحْتُر ) كيف يقتضى اللفظ الأول انفتاح الفم ، وانفراج آلات النطق ، وامتدادها ، وعدم ركوب بعضها بعضا ، وفي اسم (البُحْتُر ) الأمر بالضد .  

ثم قال ابن القيم – رحمه الله – : ولو أطلقنا عنان القلم في ذلك ، لطال مداه واستعصى على الضبط ، فلنرجع إلى ما جرى الكلام بسببه ، فنقول :

الميم حرف شفهي يجمع به الناطق شفتيه ، فوضعته العرب علما على الجمع ، ، فقالوا للواحد : ( أنت ) فإذا جاوزوه للجمع قالوا: ( أنتم ) ، وقالوا للواحد الغائب: ( هو ) فإذا جاوزوه إلى الجمع قالوا: ( هم ) ، وكذلك في المتصل يقولون : ضربت ، وضربتم ، وإياك وإياكم ، وإياه وإياهم  ، ونظائر نحو : به وبهم ، ويقولون للشيء الأزرق : أزرق ، فإذا اشتدت زرقته واجتمعت واستحكمت ، قالوا : ( زرقم )  ، ويقولون للكبير… ( قال أبو حكيم : هنا كلمة لها عندنا معنى غير ما أراد المؤلف فلم أذكرها  ومن أرادها لتمام الفائدة فعليه بمنتصف صفحة ( 246 ) )

وتأمل الألفاظ التي فيها الميم كيف تجد الجمع معقودا بها … (قال أبو حكيم وملخصه ) : ( لَمَّ الشيء يلمه جمعه ) (لَمَّ الله شعثه ) ( ألمًّ بالشيء قارب الاجتماع به ) ( اللمم ) مقاربة الاجتماع بالكبائر  ( الملمّة ) النازلة التي تصيب العبد ( اللُمّة )  الشعر الذي اجتمع وتقلص حتى جاوز شحمة الأذن ( بدرٌ التَمَّ ) إذا كمُل ، واجتمع نوره ، ومنه ( التوأم ) للولدين المجتمعين في بطن  ، ومنه ( الأم ) وأم الشيء أصله … و (الأمة ) الأمة المتساوية في الخلقة أوالزمان ،  ومنه ( الإمام ) الذي يجتمع المقتدون به على اتباعه … ومنه  ( رم الشيء يرمه ) إذا أصلحه ، وجمع متفرقه  ، وقيل : ومنه سمي الرمان ، لاجتماع حبه وتضامنه ، ومنه قولهم للأسود  ( أحم ) ، والفحمة السوداء حممة ، و( حمم رأسه ) إذا اسود بعد حلقه   ، كل هذا لأن  السواد لون جامع للبصر لا يدعه يتفرق ، ولهذا يجعل على عيني الضعيف البصر لوجع أو غيره شيء أسود من شعر أو خرقه لجمع عليه بصره فتقوى القوة الباصرة وهذا باب طويل ، فلنقتصر منه على هذا القدر .

وإذا علم هذا من شأن الميم فُهم لُحُوقها في آخر هذا الاسم الذي يسأل به الله سبحانه في كل حاجة وفي كل حال ، إيذانا بجمع أسمائه وصفاته ، فإذا قال السائل : ( اللهم إني أسألك ) ، كأنه قال : أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى ، والصفات العلى بأسمائه وصفاته  فأتى بالميم المؤذنة بالجمع في آخر هذا الاسم ، إيذانا بسؤاله تعالى بأسمائه كلها ….

والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد

اترك تعليقاً