الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد
كتاب : (الوافي بالوفيات) لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي طبعته دار الكتب العلمية في أربعة وعشرين مجلدا بفهارسه ، وقد تكلمت سابقا عن نظيره في المعنى ( وفيات الأعيان لابن خلكان ) وهو أقل منه حجما حيث طبع في أربعة وخمسة مجلدات ، كما في موضوعهما مما حوته خزانتي الوفيات للبرزالي في مجلد واحد ، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن عماد الحنبلي في أربعة مجلدات والخامس الفهرس .
ونبقى اليوم مع (الوافي بالوفيات في المجلد الثالث عشر ص 257) وشخصية : ( ظالم بن عمرو بن ظالم ، ويقال : ظالم بن عمرو بن سفيان ، ويقال عثمان بن عمرو ، ويقال : عمرو بن سفيان ، ويقال : عمرو بن ظالم ، أبو الأسود الدؤلي البصري قال عنه الصفدي : (وهو تابعي شيعي) ( وتنبه هنا إلى أن لفظة (شيعي ) عند الأقدمين لا تعني ولا تقرب بحال للفظتها عندنا اليوم ، فليس أكثر من تفضيلهم لعلي رضي الله عنه – وهو مُفضل مقدّم فهو رابع الأربعة المقدمون في الإسلام رضي الله عنهم بعد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم – حيث قال الصفدي بعد : (وهو علوي الرأي ، وجيرانه من بني قشير عثمانية ) ، وله معهم قصة حيث آذوه برجمه ليلا بالحجارة ، فعاتبهم فقالوا له : ما رجمناك ، ولكن الله رجمك . فقال كذبتم لأنكم إذا رجمتموني أخطأتموني ولو رجمنى الله ما أخطأني ، فباع داره ، فقيل له بعتَ دارك ؟ فقال : لا ، ولكني بعتُ جيراني ، و لما تولى معاوية – رضي الله عنه – الخلافة قدم عليه أبو الأسود الدؤلي ، فأدنى مجلسه وأعظم جائزته ، وذكر الصفدي – غفر الله له – حكايات لأبي الأسود مع معاوية – رضي الله عنه وأرضاه – نربأ بأعدل ملوك الإسلام وخال المؤمنين وكاتب الوحي والحليم المشهور المضروب به المثل بالحلم والحزم ( وما شعرة معاوية عنا ببعيد ) أن تصدر مثلها عنه – ولكن لأهل الأدب مذاهب ، وكان بعضهم يقول : لا نجري على قصص الأدب والتاريخ ما نجريه على الحديث من التحري والتدقيق ، ولكن أقول : إذا تعلق الأمر بأصحاب رسولنا الكريم رضي الله عنهم ، كلا وألف كلا ، بل ندقق وندقق ونرفع قدرهم كما أمرنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة لك يارسول الله ومع إيماننا أنهم بشر يعتريهم ما يعتري البشر ولكن لهم منزلة لن يصلها أحد ، كيف لا وهم من جالس نبينا وسمعوا منه وأخذوا عنه وقد زكاهم ربهم أنه رضي عنهم وقد رضيهم الله لصحبة خير خلقه وكفى فخرا صحبة محمد صلى الله عليه وسلم وجمعنا الله بهم في جناته – .
ولكن نقف مع بعض حكاياته وظرفه وقبلها إليكم أصول النحو الذي بدأت منه : قيل : إنه أخذ النحو من علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في أقوال وحكايات ليس موطن بسطها هذا المختصر ومختصرها أنه أجاب ابنته لما سألته ( فلحنت بقولها ): يا أبه ما أشدُ الحر ، فظنها تسأله وتستفهمه فقال لها: شهر ناجر ، فقالت له يا أبه إنما أخبرتك ولم أسألك فذهب إلى علي رضي الله عنه فوضع له أصول النحو ، من حديث أبي عثمان المازني نخلص إلى : أنه لم يضع إلا باب الفاعل والمفعول به فقط ، ثم جاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية ، ثم زاد فيها عنبسة بن معدان ، وعبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي ، فلما كان عيسى بن عمر وضع في النحو كناشا ( قال أبو حكيم : مجموعة أوراق تجمع كالدفتر تقيد بها الفوائد ) ، ثم أبو عمرو بن العلا ، ثم الخليل بن أحمد، ثم سيبويه . وقال أبو عبدالله محمد بن الحسن الزبيدي في طبقات النحاة : عمل أبو الأسود كتاب “الفاعل والمفعول والتعجب ” ثم فرع الناس الأصول بعده إلى اليوم .
ومن حكاياته : كان يوما جالسا على باب داره وبين يديه رطب ، فجاز به أعرابي فقال : السلام عليك. فقال له أبو الأسود: كلمة مقولة. قال: أأدخل؟ قال: وراءك أوسع لك. قال: إن الرمضاء أحرقت رجلي، قال: بل عليها أو إيت الجبل يفئ عليك. قال: هل عند شيء تطعمني؟ قال نأكل ونطعم العيال، فإن فضل شيء فأنت أحق به من الكلب، فقال الأعرابي: ما رأيت ألأم منك. قال أبو الأسود: بلى ولكن أنسيت . فقال الأعرابي : أنا ابن الحمامة. قال: كن ابن الطاووس ، وانصرف. قال: أسألك بالله أن تطعمني مما تأكل، فألقى إليه ثلاث رطبات، فوقعت إحداهن في التراب، فأخذ الأعرابي يمسحها بثوبه، فقال أبو الأسود: دعها فإن الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به، فقال: إنما كرهت أن أدعها للشيطان، فقال له: لا والله ولا تدعها لجبريل وميكائيل .
وقال أبو الأسود : لا شيء أعز من العلم ، لأن الملوك حكام على الناس ، والعلماء حكام على الملوك .
وقال لابنته لما زوجها : إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق ، وعليك بالزينة وأزين الزينة الكحل ، وأطيب الطيب إسباغ الوضوء ، وكوني كما قلت لأمك :
خذي العفو مني تستديمي مودتي .. .. ولا تنطقي في سَورتي حين أغضبُ
فإني وجدت الحب في الصدر والأذى .. .. إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهبُ
توفي -رحمه الله- في طاعون جارف عام تسعة وستين وخطّأ الصفدي من جعل وفاته في زمن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ورضي الله عن جميع المسلمين ،
والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد