كتاب جغرافي، يعد أحد أشهر الموسوعات الجغرافية التي ظهرت في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي
ومما قاله رحمه الله في كتابه مما يبين تقلب حال الدنيا ويبين مشارب أهلها وتعاطيهم مع صروفها وبالمثال يتضح المقال :
( اعلم أن جماعة من أهل العلم ومن الوزراء قد صنفوا في هذا الباب، وإن كانت مختلة، غير أن أكثرها بل
كلها سماع لهم ، ونحن لم يبق إقليم إلا وقد دخلناه ، وأقل سبب إلا وقد عرفناه ، وما تركنا مع ذلك
البحث والسؤال والنظر في الغيب ، فانتظم كتابنا هذا ثلاثة أقسام: أحدها: ما عايناه، والثاني : ما سمعناه من
الثقات، والثالث : ما وجدناه في الكتب المصنفة في هذا الباب وفي غيره.
وما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها، ولا تصانيف فرقة إلا وقد تصفحتها، ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها، ولا أهل زهد إلا وقد خالطتهم، ولا مذكرو بلد إلا وقد شهدتهم ، حتى استقام لي ما ابتغيته في هذا الباب.
ولقد سُمّيت بستة وثلاثين اسماً دعيت وخوطبت بها مثل: مقدسي وفلسطيني وشامي وعراقي وبغدادي ومصري ومغربي وخراساني وسلمي ومقرئ وفقيه وصوفي وولي وعابد وزاهد وسياح ووراق ومجلد وتاجر ومذكِر وإمام ومؤذن وخطيب وغريب وحنيفي ومتأدب وكرى ومتفقه ومتعلم وفرائضي وأستاذ ودانشومند
( قال أبو حكيم : هي من لغة الفرس و تعني عالم أو مطلع ) وشيخ ونشاسته ( قال أبو حكيم : ولا أدري ما مقصده منها ) وراكب ورسول ، وذلك لاختلاف البلدان ألتي حللتها، وكثرة المواضع التي دخلتها.
ثم إنه لم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذت منه نصيبا غير الكُدية ( قال أبو حكيم : لعله أراد حرفة الشّحاذ ومتسول الناس فهي من معانيها ) وركوب الكبيرة، فقد تفقهت وتأدبت، وتزهدت وتعبدت، وفقهت وأدبت. وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر. وأممت في المساجد، وذكرت في الجوامع، واختلفت إلى المدارس. ودعوت في المحافل، وتكلمت في المجالس. وأكلت مع الصوفية الهرائس. ومع الخانقائيين الثرائد، ( قال أبو حكيم : الخانقاه محطات الطريق ) ومع النواتي العصائد ( قال أبو حكيم : النوتي قائد السفينة ) وطردت في الليالي من المساجد، وسِحت في البراري، وتُهت في الصحاري. وصدقت في الورع زمانا، وأكلت الحرام عيانا. وصحبت عباد جبل لبنان، وخالطت حيناً السلطان. وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزبيل. وأشرفت مراراً على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق. وخدمت القضاة والكبراء، وخاطبت السلاطين والوزراء. وصاحبت في الطرق الفساق، وبعت البضائع في الأسواق. وسجنت في الحبوس، وأخذت على أني جاسوس. وعاينت حرب الروم في الشواني وضرب النواقيس في الليالي. وجلدت المصاحف بالكرى، وأشتريت الماء بالغلاء. وركبت الكنائس والخيول، ومشيت في السمائم ( قال أبو حكيم : هي الريح الحارة ) والثلوج. ونزلت في عرصة الملوك بين الأجلة ، وسكنت بين الجهال في محلة الحاكة. وكم نلت العز والرفعة ، ودبر في قتلي غير مرة. وحججت وجاورت، وغزوت ورابطت. وشربت بمكة من السقاية السويق، وأكلت الخبز والجلبان بالسيق. ومن ضيافة إبراهيم الخليل، وجميز عسقلان السبيل. وكُسيت خلع الملوك وأمروا لي بالصلات. وعريت وافتقرت مرات، وكاتبني السادات، ووبخني الأشراف. وعرضت علي الأوقاف، وخضعت للأخلاف. ورميت بالبدع، واتهمت بالطمع. وأقامني الأمراء والقضاة أمينا، ودخلت في الوصايا وجعلت وكيلا. وامتحنت الطرارين، ورأيت دول العيارين. واتبعني الأرذلون، وعاندني الحاسدون، وسعي بي إلى السلاطين. ودخلت حمامات طبرية، والقلاع الفارسية. ورأيت يوم الفوارة، وعيد بربارة، وبئر بضاعة ، وقصر يعقوب وضياعه. ومثل هذا كثير ذكرنا هذا القدر ليعلم الناظر في كتابنا أنا لم نصنفه جزافا، ولا رتبناه مجازا، ويميزه من غيره. فكم بين من قاسى هذه الأسباب، وبين من صنف كتابه في الرفاهية ووضعه على السماع. ولقد ذهب لي في هذه الأسفار فوق عشرة آلاف درهم سوى ما دخل علي من التعصير في أمور الشريعة. ولم يبق رخصة مذهب إلا وقد استعملتها ، قد مسحت على القدمين، وصليت بمد هامتين ، ( ؟؟ ) ونفرت قبل الزوال، وصليت الفرض على الدواب، ومع نجاسة فاحشة على الثياب، وترك التسبيح في الركوع والسجود، وسجود السهو قبل التسليم. وجمعت بين الصلوات، وقَصرت لا في سفر الطاعات .
غير أني لم أخرج عن قول الفقهاء الأئمة، ولم أؤخر صلاة عن وقتها بته. وما سرت في جادة وبيني وبين
مدينة عشرة فراسخ فما دونها إلا فارقت القافلة وانفتلت إليها لأنظرها قديما، وربما اكتريت رجالا يصحبوني، وجعلت مسيري في الليل لأرجع إلى رفقائي مع إضاعة المال والهم .
قال أبو حكيم : سبحان من أعطاه هذا العزم والجد وإنه والله لدرس لمن قال : لا أقدر أو لا أستطيع ؟ !، فما عليك سوى بذل السبب والإعانة والتوفيق من الله .
وصلى الإله على الحبيب المصطفى وآله وصحبه السادة النجباء ومن سلك دربهم وعلى آثارهم اهتدى والله أعلم وأحكم