الجمعة الرابعة / السابعة والعشرين من محرم لعام 1438هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة المئتين وسبع (207) في تعداد الجمع ، والرابعة في عام ( 1438 ) وتوافق ( 27 / 1 / 1438 هـ ) بحسب التقويم و الرؤية .

ما أشبه الليلة  بما قبل خمسمائة سنة !!    

 ( اللهم احم بلاد المسلمين )  ، جمال الغيطاني  كتب في ( ملامح القاهرة في 1000 سنة )   في ( ص 183 ) مقالاً عن ( خاير بك ) أو ما عرف بعد ب ( خائن بك )   ومما جاء فيه مختصرا :

( في ذلك اليوم البعيد المتواري الآن في أعماق التاريخ ، شرع السلطان الغوري يصيح محاولاً لم شمل عساكره بعد أن دارت الدوائر وصارت الكفة راجحة إلى جانب السلطان سليم العثماني، ” يا أغوات، هذا وقت الشدة، هذا وقت المروءة ، قاتلوا وعليَّ رضاكم”.
ولكن لم يسمع له أحد قولاً، وصاروا ينسحبون من حوله شيئاً بعد شيء، وفوق الغبار الذي غطى سهل “مرج دابق” خيم شبح (  الخيانة )  الكئيب المقزز، لقد عرف على الفور أن بعض أمراء المماليك كانوا على صلة  ( بالسلطان سليم ) ، ومنهم ( خاير بك نائب حلب )  الذي كان يقود الميسرة لقد كان موالساً على السلطان الغوري في الباطن، وهو مع ابن عثمان على السلطان، وظهرت خيانته مبكرة، كان أول من هرب من القادة، والحقيقة أن خيانته بدأت قبل موقعة مرج دابق بكثير، كان على صلة بالعثمانيين، يراسلهم بأحوال مصر ، ويكشف أسرارها، ولا يحدد لنا ابن إياس التاريخ الذي بدأ فيه تجنيده للعمل إلى جانب العثمانيين وهذا طبيعي فتاريخ الجواسيس والخونة يلفه الغموض دائماً، …  وتتجسد في هؤلاء الأمراء الخونة الذين خامروا على سلطانهم، وتسببوا في ضياع السلطنة المصرية التي كانت تحمي البحرين والحرمين، وتحويل مصر التي تباهي بملكها الملوك إلى مجرد ولاية تابعة للسلطنة العثمانية وكان خاير بك أشهر خونة ذلك الزمان   ، وحتى هزيمة السلطان الغوري في مرج دابق لا نسمع أخباراً عن (خاير بك )، ولا تطالعنا مواقف بارزة له، ولا نجد اسمه في ( بدائع الزهور ) إلا عند ذكر أرباب الوظائف بالدولة، ولكن (خاير بك ) يطفو على سطح التاريخ من قاع الخيانة، لقد مرت حياته حتى (مرج دابق ) بمرحلة، وتبدأ المرحلة الثانية بانضمامه إلى ( السلطان سليم )  حتى دخوله القاهرة. أما المرحلة الثالثة فتبدأ منذ تعيينه نائباً للسلطنة العثمانية بمصر وتنتهي بموته…
وتبدأ العلاقة المعقدة بين الإنسان الذي باع نفسه والسلطان الذي اشتراه، إنه بيع من نوع خاص، فبيع البشر كان أمراً عادياً في ذلك الزمان، ولكن هذا البيع الإرادي له اسم واحد على مر العصور كلها، مهما اختلف الزمان، إنه ( الخيانة ) بعينها، وهنا لا ينظر السلطان العثماني باحترام إلى الخائن، إنما يحتقره ويحذر جانبه، ويسميه  (خاين بك )، وينتشر الاسم ليصبح على ألسنة الناس كلهم في مصر، وربما كانت حكايات الناس المتداولة نسبت إلى السلطان سليم تسميته  ( لخاير بخاين بك ) ،  بعد أن انضم ( خاير بك )  إلى العثمانيين يحدثنا “ابن زنبل الرمال” في كتابه ” وقعة السلطان الغوري مع السلطان سليم” عن علاقة خاير بك بالسلطان العثماني، وكيف أنه أشار عليه بذبح الكثير من المماليك الذين وقعوا في الأسر، ويقول ابن زنبل الرمال:
“وكان السلطان سليم ليس له إقدام على قتل النفس”.
إن الخائن يصبح مبالغاً في العداء لقومه، يود إبادتهم كلهم وكأنه يريد إطفاء العيون التي تتطلع إليه باحتقاره، ويلح الخائن على السلطان سليم في ضرورة التوجه إلى مصر، يقول ابن زنبل الرمال:
“فقال له السلطان سليم، وأنّى لي بأخذ مصر، وجميع العسكر اجتمعوا بها، وقد أخذوا أهبتهم، وسلطنوا عليهم طومان باي، وهو مشهور عندهم بالشجاعة والفروسية ولا بد لهم من أمر يريدونه، ونخشى التجوين في بلادهم وبعد المسافة بيننا وبين بلادنا، فقال خاير بك: إن العسكر الذين رجعوا من بعد الكسرة وانقطعت قلوبهم، لا سيما والخلف واقع بينهم، فإنهم جميعاً مختلفون، وكل من الأمراء والأعيان قصده هلاك الآخر، فحيثما كان ذلك فلا تخش من شيء، وأنت منصور بنصر الله لك”.
ويذكر ابن زنبل أن السلطان سليم وبخ خاير بك كثيراً كلما واجه موقفاً صعباً، بل إنه في بعض الأحيان هم بضرب عنقه، خاصة بعد دخول القاهرة، وهروب طومان باي وتجميعه للمصريين والعربان وتنظيمه المقاومة ضد  ( الغزو العثماني ، ( قال أبو حكيم فاعجب من تعبيرات بعضهم ) ، وعندما كان العثمانيون يمسكون بأمراء المماليك الهاربين، كان خاير بك يستحث السلطان سليم في قطع رقاب الذين كانوا يوماً زملاءه ومن بني جنسه،  ويتكرر نفس الموقف عند أسر ( طومان باي )  السلطان المملوكي الشجاع، إن (سليم العثماني ) يعجب به، ولكن ( خاير بك )  يحرضه بكل الوسائل على قتله، حتى يتم شنقه على  ( باب زويلة ) ، إن الخائن يبتذل كل ما تبقى من إنسانيته شيئاً فشيئاً في سبيل إرضاء سيده الجديد، وقبل أن يغادر السلطان سليم مصر يقرر تعيين (خاير بك )  نائباً له بمصر، ويلقب ( خاير بك بملك الأمراء ) ، في يوم الأحد السادس والعشرين من شهر شعبان سنة (  933هـ ) ، طلع الخائن إلى القلعة، وبعد يومين فقط ثار عليه جماعة من جنود الإنكشارية العثمانيين    . “وقالوا له: رتب لنا جامكية كما كانت تأخذ المماليك الجراكسة، فقال لهم: حتى أرسل أطالع أستاذكم بذلك ” .

باستمرار يحاول خلق الهيبة لنفسه، ويتشبه بسلوك السلاطين، فينزل من القلعة في مواكب يحاول أن يضفي عليها الأبهة، ولكنها كانت تفتقر إلى ذلك مادياً ومعنوياً، فالفخامة ولت ، وفي وصف ابن إياس لمواكب الخائن ونزوله نلمح فتوراً، بل واحتقاراً،  كان احتقار الشعب له نتيجة عدة عوامل، أولها : الخيانة الفادحة التي راحت ضحيتها مصر، أما العامل الثاني :  فعجزه عن رد حقوق الناس إليهم، لا تقرأ أنه رد بضاعة مسروقة إلى صاحبها، أو أنصف مظلوماً، بل إن الخائن كان يمارس الظلم بوضاعة … ،  وكان ملك الأمراء خاير بك يبات يسكر بطول الليل ويصبح في خيال السكر يحكم بما يقتضيه عقله. ولم يظهر العدل في محاكماته قط منذ تولى عهد مصر”.
ثم يطالعنا ابن إياس بحادثة أخرى: ” وفي يوم السبت سادس عشر رسم ملك الأمراء بشنق عجمي فشنق على باب زويلة، وكان هذا التاجر في سعة من المال، فلما حضر من بلاد الشرق ومعه متجر بمال له جُرْمٌ، فطمع ملك الأمراء في ماله، وزعم أنه جاسوس من عند شاه إسماعيل الصوفي بذلك فشنقه ظلماً واحتاط على جميع أمواله “….
ولكن النهاية لم تكن سهلة، وتلك ظاهرة نلاحظها في أشهر خونة ذلك الزمان، ( فجان بردى الغزالي )  الأمير الملوكي الذي خان ( طومان باي )  وأعطاه السلطان العثماني نيابة الشام، نجده يتمرد بعد فترة قليلة من توليه منصبه الجديد، ويدفعه طمعه إلى الاستقلال بالشام وتقطع رأسه في نهاية حركته، أما ( خاير بك )  فقد كان مخلصاً في خيانته فلم يفكر في الاستقلال بمصر أبداً، بل إنه قطع رأس أحد المواطنين كان قد جرؤ وردد إشاعة تقول بنية الخائن في الاستقلال بمصر، أما الخائن الثالث شيخ العرب ( حسن بن مرعي )  فقد قطعت رأسه أيضاً في عهد الخائن، وقيل: إن المماليك الجراكسة شربوا من دمه وقطعوا لحمه جزلاً بالسيوف، وكان ابن مرعي قد خان طومان باي وسلمه على العثمانيين بعد أن اختبأ عنده.
لقد بدأ مرض الخائن ( خاير بك )  في ذي القعدة سنة 928هـ ( ولعل الصحيح  938 هـ ) ، ولزم الفراش على الفور، تزايد به المرض، انقطع عن المحاكمات، قيل: إنه وقع فريسة لثلاثة أمراض جاءته مجتمعة وكما يصفها ابن إياس: “منها فرخة محمرة طلعت له في مشعره، وانحدار انصب له في أعضائه، وهو من أنواع الفالج وكتم البول، وحار الأطباء في علاجه”.    وعندما قوي عليه النزع، راح يهذي قائلاً: أين المال؟ أين المال؟ أين الملك؟. وصار يصعق حتى خاف منه من كان حوله.     “وقد فتنته الدنيا كما فتنت من قبله، ” .
في يوم الأحد الرابع عشر من ذي القعدة ( 938 )  قبضت روح الخائن، ويعد ابن إياس مساوئه التي لا تحصى، ويقول: إنه كان جباراً عنيداً، سفاكاً للدماء، قتل في مدة ولايته على مصر ما لا يحصى من الخلايق، واخترع طريقة جديدة في القتل عن طريق إدخال الخازوق في الأضلاع وكان يسميها “شك الباذنجان”، 

( وأتلف نقود الديار المصرية ) ،       وعزل القضاة الأربعة، وزادت كراهيته لرجال العلم والفقهاء، أما أفدح مساوئه، فإنه كان سبباً في ( خراب مصر )، لقد حسن لسليم شاه أخذ مصر، وضمن له أخذها، وعرفه كيف يصنع. كان كثير الحيل. والخداع والمكر. لا يعرف له حال.  دفن الخائن في تربته التي بناها قرب باب الوزير على طريق القلعة،  وبين الناس وعامة شعب مصر كانت الأقاويل تتردد عن الخائن حتى بعد موته، يقول ابن زنبل الرمال:وكان موته عبرة لمن اعتبر، وهكذا حال الدنيا تفعل بأهلها، فهنيئاً لمن أعرض عنها وقنع منها باليسير، وترك الكثير عن باله فيا لها من دنيا .

ومن أراد المقال كاملا فهذا رابطه على الشبكة  :

اضغط هنا

وهو في المطبوع  في الصفحة الثالثة والثمانين بعد المائة من طبعة مكتبة نهضة مصر .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

اترك تعليقاً