الجمعة الثانية والاربعين / السابع والعشرين من شوال لعام 1438هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة المائتين وخمس و أربعين ( 245 ) في تعداد الجمع ، والثانية والأربعين ( 42) في عام ( 1438هـ ) وتوافق ( 27/ 10 / 1438 هـ ) بحسب الرؤية و التقويم

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:  فمن المفترض أن يكون الحديث عن الأقصى في هذا اليوم  لمناسبة الفاجعة بتحويله إلى ثكنة يهودية وتركيب بوابات إلكترونية وتفتيش الداخلين له  ومنع المصلين من  صلاة الجمعة الماضية فيه  وما يزال الأمر قائما ، ولكن لعل كل خطيب صعد المنبر اليوم في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها تكلم عن القدس والأقصى وفلسطين ، فقد قرأت أن دولا قد عممت على خطبائها بتخصيص اليوم  عن هذه القضية  مثل الأردن ولبنان والكويت ، ولا أظن الأمر يحتاج إلى تعميم في بلادنا فالأقصى لنا جميعا ،  ولعل كل أحد منا  يخصه ويخص المرابطين على بوابات الأقصى الذين تحملوا الأمر عن الأمة   بدعوة في هذا اليوم المبارك  لعل الله يكف شر اليهود عن مقدساتنا .

أما اليوم فسيكون حديثي عن الحر  ، بسبب موجة الحر التي تضرب بلادنا في مثل هذه الأيام ونرى ما يكتبه بعضنا  عن الحر ومقارنة بلادنا بغيرها  مما قدر الله وجعل لكل بلد ما يناسبه  فقد قرأت كلاما لابن القيم يناسب هذا المقام في كتابه القيم  : ” شفاء العليل في مسائل القضاء و القدر والحكمة والتعليل  ) ولدي في خزانتي نسخة نشرتها دار السوادي بجدة الطبعة الأولى عام ( 1412 هـ )   وقد خرج نصوصها وعلق عليها مصطفى أبو النصر الشلبي  وتقع في مجلدين .

قال في المجلد الثاني من ص ( 210 ) وما بعدها :

” فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولدها عن لذات ونعم يولِّدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن تكون من لوازم العدل، أو لوازم الفضل والإحسان؛ فتكون من لوازم الخير التي إن عُطِّلت ملزوماتها فات بتعطيلها خيرٌ أعظمُ من مفسدة تلك الآلام.
والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك؛ فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله:[إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ ] سورة النساء: 102.
وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف الحيوانات.
وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها، ومتولدة منها.
بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم، والشجاعة، والزهد، والعفة، والحلم، والمروءة، والصبر، والإحسان كما قال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم            الجود يُفْقرُ والإقدام قتَّالُ
وإذا كانت الآلام أسباباً لِلَذَّاتٍ أعظم منها وأدوم ـ كان العقل يقضي باحتمالها”.

لولا تلك الآلام لفاتت وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان مالا يعلمه إلا الله وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب ، وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة .  فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها . وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة .
وقد حجب الله _ سبحانه _ أعظم اللذات بأنواع المكاره، وجعلها جسراً موصلاً إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات، وجعلها جسراً موصلاً إليها.
ولهذا قالت العقلاء قاطبة: إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وإن الراحة لا تنال بالراحة، وإن مَنْ آثر اللذات فاتته اللذات؛  فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم؛ إذ هي أسباب النِّعم.
وما ينال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمورٌ جداً بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حر الصيف، وبرد الشتاء، وحبس المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك.
ولكن لذاتها أضعافُ أضعافِ آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام؛ فسُنَّتُه في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمالُ علمه وحكمته وعزته.
ولو اجتمعـت عقول العقلاء كلهم علـى أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، وقيل لكلٍّ منهم: ارجع بصر العقل فهل ترى من خلل؟
[ثُمَّ ارْجِع الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ]سورة الملك:4،

 فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها؛ فأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس، واليابس من الرطب؛ فكذلك أنشأ اللذاتِ من الآلامِ، والآلامَ من اللذات؛ فأعظم اللذاتِ ثمراتُ الآلام ونتائجها، وأعظم الآلامِ ثمراتُ اللذات ونتائجها” .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد

اترك تعليقاً