الجمعة الرابعة والثلاثين / التاسع والعشرين من شعبان لعام 1438هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة المائتين وسبع وثلاثين (237) في تعداد الجمع ، والرابعة والثلاثين (34 ) في عام ( 1438هـ ) وتوافق ( 29 / 8 / 1438 هـ ) بحسب الرؤية لا التقويم . في التقويم ( 30 )

الحمد الله على نعمه ،  اللهم بلغنا رمضان  ومن نحب ووفقنا للقيام والصيام كما تحبُ  ، رمضان شُرع لحكمةٍ عظيمةٍ  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) البقرة 

وللطاهر بن عاشور التونسي رحمه الله تعالى كلام نفيس في تفسيره المسمى اختصارا ( التحرر والتنوير  من التفسير )  واسمه كاملا: ( تحرير المعنى السديد ، وتنوير العقل الجديد ، من تفسير القرآن المجيد )  ومن أراد معرفة حال الطاهر – رحمه الله – فلينظر إلى هذا الرابط    

اضغط هنا

 

قال رحمه الله في تفسير هذه الآية : مختصرا  من المجلد الأول الجزء الثاني من الصفحات ( 154 حتى 162  ) :الصيام ويقال الصوم وهو في اصطلاح الشرع : اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله تعالى . لا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلا َّعلى ترك كل طعام وشراب ، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء …   وللصيام  إطلاقات أخرى مجازية ، كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة :

خيلٌ صيام وخيل  غير صائمة      ….     تحت العجاج وأخرى تَعْلِكُ اللُّجُما

  وأطلق على ترك شرب حمار الوحش للماء ، قال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء   لاجتزائها بالمرعى الرطب

حتى إذا سلخا جمادى ستةً     ….      جَزْءاً فطال صيامُه وصيامها

وأما إطلاق الصيام على ترك الكلام  في قوله تعالى حكاية عن ( قول عيسى عليه الصلاة والسلام  )( فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) .فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد ، أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل .

… عرف العرب الصوم  في الجاهلية من اليهود  في صومهم يوم عاشوراء … في حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين  قالت : ” كان يوم عاشوراء يوم تصومه قريش في الجاهلية ”  ، وجاء في بعض الروايات قولها : ” وكان رسول الله ﷺ يصومه ” .

قال أبو حكيم  : الجواب عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في سؤاله ﷺ اليهود عن صيامهم لعاشوراء ، قال الطاهر  : ” فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرّف أصل صومه ” .

( كما كتب على الذين من قبلكم ) قال أبو حكيم : هل معنى ذلك أننا نصوم كما صامت الأمم السابقة قبلنا  ؟

وجواب الطاهر : ” تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم في الكيفيات  ،والتشبيه يكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة ، وهو وجه الشبه المراد بالقصد ، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ، ( قال أبو حكيم معنى كلام الطاهر وهو مأخوذ من لكلام له سابق  : معنى ذلك أن أصل الصوم موجود عندنا وعند الأمم السابقة ، وهو وجه الشبه ، ولكن قد تختلف الأحكام التفصيلية  عندنا وعند غيرنا فمثلا عندنا في تحديد أحواله وأوقاته مثل ( فالآن باشروهن … حتى يتبين لكم الخيط الأبيض …. وقوله : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر … الخ )  ، قال الطاهر : ولكن فيه أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه :   أحدها  : الاهتمام بهذه العبادة ، والتنويه بها لأنها شرعَها الله قبلَ الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين ، وشرعها للمسلمين ، وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها ووفرة ثوابها . وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم .

والغرض الثاني : أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم ؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبى العهد بالإسلام ، وقد أكَّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده : { أياماً معدودات } .

والغرض الثالث : إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة .

( لعلكم تتقون ) : ”  التقوى الشرعية هي : اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجباً لاتقاء المعاصي ، لأن المعاصي قسمان ، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصْب فتركُه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ، لأنه يُعَدِّل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أَوج العالَم الرُّوحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية .
وفي الحديث الصحيح « الصَّوْمُ جُنَّة » أي وقاية ولما تُرك ذكر متعلَّق جُنَّة تعيَّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العِلل والأدْواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات ” .

تفسير (التحرير والتنوير )  طبع من قبل مكتبة دار سحنون للنشر والتوزيع  في تونس بدون تاريخ طبع ويقع في ثلاثين جزاء  مجمعة في اثني عشر مجلدا .

  والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد .

اترك تعليقاً