الجمعة الرابعة والاربعين / التاسع من ذي القعدة لعام 1437هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة السادسة والتسعين بعد المائة (196) في تعداد الجمع ، والرابعة والأربعين ( 44 ) في عام ( 1437هـ ) وتوافق (1437 / 11 / 9 ) بحسب التقويم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اللهم لك الحمد على ما بنا من النعم التي نتقلب فيها ، فاللهم زدنا شكرا وحمدا، ولن نوفيك حقك ، فياقوم فلنفق ولنأخذ على يد سفهائنا في منعهم من تبذير النعم ، فقد انتشر هذا الأسبوع مقطع لرجل قد ارتقى سيارة ومعه ما يغرف به الأرز من أوان في سيارته إلى مجمع مزبلة ، وكأن ليس فيمن حولنا عبرة حيث لا يجدون ما يقتاتون به ، وانتشر غيره من المقاطع التي تبين اهدار النعم وتركها بلا استفادة وكأننا معنا عهد من الله أن لا يغير علينا نعمه ولو كفرناها ،  وقد مرت – والله صدقا وعدلا- على هذه البلاد مجاعة عظيمة أهلكت الناس والبهائم ،  فقبل(مائة وعشر سنوات تقريبا حوالي ( 1327هـ) كانت المجاعة العظيمة في نجد ، (وكان موقع  مديني الخبراء الوقع الحديث حيث انتقلت من موقعها القديم إلى الغرب منه بحوالي خمس كيلوات) أحد المجامع لنزول من جاء من أهل البادية للبلدات وما حولها من المزارع ،  لعلهم يجدون ما يقتاتون به بعد أن أهلك الله الماشية فلم يبق ظلف ولا خف ،  وليت شعري ليتنا نعرف من جاء هل رجع لبلده أو غيبه الموت بسبب الجوع ؟ – نعوذ بالله من الجوع فهو بئس الضجيع –  وانتشر مقطع صوتي لكبار السن يحكون عنها،  وقد سمعنا في مجلس مزرعتنا من أهلنا قصصا لأناس مروا بنا قد غشيهم الصرع من الجوع ، فاللهم اجعل ما أصابهم تكفيرا ، وعوضهم الجنة يا أرحم الراحمين ،  وفي الحجاز قبل مائة عام في ( 1337هـ) بالتمام والكمال -وبحمد الله- ، بدأت نهاية البلية الكبرى لأهل المدينة النبوية بتسليم فخري باشا ( الدولة العثمانية )

للشريف عبدالله بن الحسين المدينة نيابة عن والده لما هزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ( ولم تطل مدة حكم الأشراف فقد امتددت سبع سنوات حتى دخلت المدينة في ظل الحكم السعودي بقيادة الملك عبدالعزيز – رحمه الله ورحم جميع المسلمين ،  وكانوا ( أهل المدينة ) قبلها ( قبل الثورة العربية ) عاشوا في رغد من العيش قل نظيره في كثير من البلدان كما يحكي الأستاذ ( سعيد طولة ) – وسيأتي خبره بعدُ إن شاء الله –   ثم مرت بهم سنون انقلبت فيها الأحوال قال عنها(عزيز ضياء)- رحمه الله –  في مقدمة كتابه( حياتي مع الجوع والحب والحرب ) في رسالته لولده

ويحكي له أحد أسباب كتابة كتابه فيما لاقوه لما رُحِّلوا من المدينة إلى الشام فقال : ( وعرفت الجوع .. الجوع الذي يمزق الأمعاء ، الجوع الذي جعل وجبة الخبز الأسود أشهى وألذ وجبة تذوقتها حتى اليوم .. الجوع الذي كبرت وقرأت عنه قصصا وأساطير راعني أني عشتها حقائق ( قال أبو حكيم ، كما نفعل نحن اليوم نقرأ ، وبحمد الله لم نعشها حقائق ، فهلّا قيدناها بالشكر حتى لا نذوق مر حقائقها ، والسعيد من وعظ بغيره ) ، ثم قال عزيز :  الجوع الذي جعل المرء حين يمشي في الشارع أو الزقاق لا ينظر إلى ما حوله أو أمامه ، وإنما ينظر إلى الأرض وحدها ، حيث يتحرى العثور على كسرة خبز أو حبة فاكهة أو عظمة ، فلا يكاد يرى ما يبحث عنه  فيركض لالتقاط ما رأى ، حتى تكون الهياكل العظمية السائرة في نفس الطريق قد مدت أيديها لتنزع كسرة الخبز ، أو حبة الفاكهة العطنة ، أو العظمة التي زهدت فيها الكلاب ، ويبلغ النزاع أو هو الصراع أوجه الأعلى ، حين تمتد هذه الأيادي التي أخفقت في التقاط هذه اللقمة إلى فم الهيكل العظمي .. وإلى شدقيه ، وما بين فكيه تستخرج منه ما بقي ، ولو أدى ذلك إلى شق الشدقين وتمزيقهما … ) (اللهم إنا نعوذ بك وبرحمتك أن نصل لما وصلوا إليه ربنا لا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا ).  ثم جاء الأستاذ ( سعيد بن وليد طولة) في كتابه الذي يستدر الدمع من المآقي ( سفر برلِك جلاء أهل المدينة المنورة إبان الحرب العالمية الأولى – 1334 – 1337 هـ  ) والكتاب من منشورات نادي المدينة المنورة الأدبي ، – ومن فوائد ( التويتر ) أن وجدت المؤلف قد غرد بإصدار كتابه  بطبعته الأولى عام ( 1437هـ) – أي بعد مائة عام من أحداثه التي يؤرخها ، وقل نظيره في تاريخ تلك الفترة ، في جمعه وتمحيصه وغزير فوائده وصوره وإصدار الأحكام على ما قيل من قصص وحكايات قبل كتابه .

 وبحمد الله كان وما يزال بالمدينة النبوية لنا أحباب نودهم ويودوننا ، فاتصلت على الأخ الكريم والأستاذ الفاضل ( محمد غيث ) نزيل المدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام – وقد تعرفتُ عليه قبل عشر سنوات في عام( 1427هـ ) في دورة الإشراف التربوي في جامعة أم القرى بمكة المكرمة ، فعرفت أنه من المدينة وصادقته بمكة ( مع أخينا ماجد البيجاوي ) كان هذا في أطهر بقعتين على وجه الأرض – نور على نور – زادهما الله من فضله وأتم عليهما النعمة ، وطلبت من أستاذي ( محمد غيث ) مشكورا الحصول على نسخة من الكتاب وأن يوافيني بها بالبريد – ففعل مشكورا مأجورا- ، فما أن وصل الكتاب وتصفحته بجوار مقر شركة الشحن حتى أعادت شجون الذكريات لكتاب( عزيز ضياء ) ( حياتي مع الجوع و الحب والحرب ) وقد قرأته من سنوات ، وكان طبع في ثلاثة أجزاء من مؤسسة الشرق الأوسط للإعلان والثقافة – فلا يفوتكم ففيه من العظات الشيء الكثير نسأل الله عفوه وحسن إفضاله.

 وهذا الكتاب كتاب ( سعيد بن وليد ) ( “سَفَر بَرْ لِك ” جلاء أهل المدينة المنورة إبان الحرب العالمية الأولى  1334 – 1337 هـ  ) تخصص في هذه الواقعة ( في المدينة وترحيل أهلها بأمر القائد العسكري عمر فخري الدين بن محمد ناهد بن عمر تُرك خان   – طوعا أولا و إكراها أخيرا –  إبان الحرب العالمية الأولى للشام حتى بلاد الأنضول والبلقان وغيرها  ) خشية هلاكهم من الجوع ، ولإفراغ المدينة للجنود وجعلها منطقة عسكرية وقصر الأقوات عليهم  ، استعدادا لصد ثورة  الشريف حسين بن علي ، وبالفعل وقف (فخري باشا)  أمام هذه الثورة بكل بسالة وشجاعة ، وفي الكتاب إشارات لبطولة هذا الرجل وصلابة عزمه  لمدة أربع سنوات  .

قراءة الكتاب تُجْرِي الدمع مدرارا على ما صار بالمدينة وأهلها وتوالي النكبات عليهم من التهجير ومن الجوع  والخوف والمرض وسرقة الأمتعة وقلة الحيلة وهوان أشراف الناس ، وتفاني الناس موتا في مهجرهم حتى أن بعض العوائل هُجِّرَ منهم سبعون نفسا ولم يعد للمدينة إلا امرأة وابنتاها   … نعوذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن .

ومن لطيف ما أختم به أن كلمة ( سَفَر بَرْ لِك ) بفتح السين والفاء والباء وبكسر اللام  ، كلمة مكونة من ثلاث لغات ( العربية والفارسية والتركية ) وقيل معناها بالتركية ( السفر معا ، أو جماعة مهيأة للسفر ) وقيل معناها : تعبئة الجيش وهي مكونة من ثلاث عناصر ( سفر ) وهي كلمة عربية ، و( بر ) وهي فارسية مشتقة من (بُردن) بمعنى حَمَل  ، و ( لك ) وهي كاسعة ( قال أبو حكيم : ولا أدري ما معناها ) !! تركية تحول الصفة إلى اسم ، فأصل معنى الكلمة بعناصرها الثلاث  : حمل الناس على السفر .

 

الكتاب عظيم المبنى غزير الفائدة  مع التدقيق والتمحيص لحكايات الكتب قبله ،  بالإضافة للصور النادرة فيه ، وتجد فيه من نكات علم وطارف وتليد  ما لا تجده في غيره  ، ولعل الله يهيئ من يكتب عن تاريخ تلك الفترة من جميع جوانبها .

ربنا احفظنا واحفظ بلادنا وكل بلاد المسلمين من كل مكروه .

وللفائدة صورة أخرى من الجوع نقلها ( ويليام كامكوامبا  وبريان ميلر ) في الكتاب المترجم  من قبل شادي الرواشدة  ، بعنوان ( الفتى الذي طوع الرياح ) وهو كتاب جميل شيق  يحكي قصة الفتى المالاوي (ويليام كامكوامبا  ) والمالاوي ( دولة أفريقية ) تميل تقريبا إلى الشمال الشرقي من أفريقيا الجنوبية  ، وكيف فتك الجوع بهذه الدولة بحدود الألفين الميلادية قبل  ست عشرة سنة .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد  

اترك تعليقاً