الجمعة الحادية والثلاثين / الحادية عشر من شعبان لعام 1436هـ

من مختارات أبي حكيم في الجمعة الثالثة و الثلاثين بعد المائة (133) في تعداد الجمع ، والجمعة الحادية والثلاثين (31 ) من عام 1436 هـ وتوافق ( 11 / 8 / 1436 هـ ) بحسب الرؤية والتقويم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

في خزانتي كتاب ( بغداد ذلك الزمان ) لمؤلفه ( عزيز بن  الحاج  علي بن حيدر  )من الأكراد  الطبعة الثانية عام ( 2011 م ) من دار ( ميزوبوتاميا ) بغداد  . طبع في ( 166 ) صفحة من القطع المتوسط  ،  عجبت مما جاء في آخر هذا الكتاب وما سوف أنقل لكم منه ملخصا  فكرته  ، وقارنت بينه وبين ما حصل في الجمعة الماضية ( 4 / 8 / 1436 ) من تفجير في مسجد بقرية (القديح ) من أعمال القطيف السعودية   تحت ذريعة( أنهم من الشيعة الروافض ؟؟؟ )   وهذا الكلام المنقول من – باب التأكيد – ليهودي   وقاله في فلسطين في مقابلة صُحفية  بدون ضغط أو إكراه  بل تحدث بحرية واصفا أول حياته في بغداد في حي للمسلمين .

كتب المؤلف عزيز  في كتابه ( على الرغم مما لدى المؤلف من الملاحظات من ناحية الالتزام الديني ولكنها شهادة  تلفت النظر  )

قال ( من ص 155 حتى ص 162 )  : بغداد في ذاكرة الصحفي اليهودي (المهاجر ) لإسرائيل (منشيّ زعرور)  ،  من حوار أورده (نسيم رجوان)  في كتابه عن ( تاريخ يهود العراق الصادر عام ( 1998 م )) :  منشي زعرور المكنى ( بأبي إبراهيم ) كان صُحفيا  ذا قيمة تناهز  الخمسين سنة منها خمسة وثلاثون سنة في الصحف العربية في بغداد ، وباقيها في الصحف والنشرات العربية ، التي وجهتها الأحزاب هنا ( قال أبو حكيم : يقصد ب(هنا ) أي في فلسطين أعادها الله )  إلى عرب إسرائيل ، ثم في جريدة اليوم أسلوبه في الكتابة اندافاعي بليغ وجرئ كأسلوبه في الكلام والاستجابة .

قال أبو إبراهيم: ماذا علم الشباب اليهودي عن العالم الإسلامي  الذي أحاط بهم في بغداد  ؟ هذا العالم كان ينجلي تدريجيا للكبار فقط ، إثر تجارتهم واتصالاتهم بالمسلمين ، أما الصغار ، فطالما عايشوا إنذارات أمهاتهم ( لا تطلع للدغب ليضغبك مسلم ؟ ) ومعناه : (لا تخرج للشارع لئلا يصيبك مسلم ) .

وُلد أبو إبراهيم ( اليهودي ) وترعرع في حي إسلامي  ( حي بني سعيد في بغداد) في قبيلة( بني سعيد )المنتشرة في لواء (ديالي)  ، وساكنهم بعد في الحي  عوائل من قبيلة( بني قيس ) حتى فاقوهم عددا وبقي الحي باسمهم لم يتغير  ، سكن جد أبي إبراهيم لأمه (وكان وسيطا في تجارة الدخان )  في الحي استجابة لنصح  تاجر مسلم ( أحمد التتنجي )  صادقه لاشتراك المهنة   ( قال أبو إبراهيم  : وكان الاثنان تقيين  حريصين على فرائض الدين ) ( قال أبو حكيم:  لا تعجبوا فلعله لم يكن لديهم علم بتحريم الدخان أو معرفة بأضراره كما نحن الآن ) .

ونشأ أبو إبراهيم في بيت جده لأمه  لعادة كانت عند المسلمين  وأخذها عنهم اليهود  – وليس هذا محل بسطها –  فنشأ مع أولاد المسلمين  شاركهم ألعابهم بل تعلم  عند الملاّ ( الكُتّاب )  المسلم  لما بلغ السادسة أو السابعة وتعلم القراءة والكتابة بل وحفظ شيئا من القرآن   حتى إذا بلغ التاسعة نادوه ( ملاّ)  أي عارف بالقراءة والكتابة  بل وصار مقصدا لمن أراد قراءة رسالة أو  كتابتها من أهل الحي المسلمين  ، وعمل في بعض الأحايين مصوتا  في حيه (حي بني سعيد المسلم )، والمصوت : الذي يخرج في الحي مناديا معلنا عن ضياع ( دجاجة أو عنز ) لأحدهم  فينادي في شوارع الحي : ( يا سامعين الصوت أولكم محمد وتاليكم علي اللقا ( دجاجة حمراء مثلا )  ويغيبها ، يغبا داره  ، ويموت خير ما بعياله ) .  وهل كانوا يردون الضائعة ؟       كان يردون  ، كيف لا يردون  ! كانوا يخافون الله ويتحاشون الإثم  فإذا قلت( لمسلم ): ” خطية ” ارتدع حالا  هذا ما كان في تلك الأيام واجب البذل والأمانة كان شديدا على الناس ، وكان المسلم إذا خرج من باب داره صباحا  ( وقام إبو إبراهيم بتمثيل هذا المشهد )  يقف على عتبة داره ويرفع عينيه إلى السماء  قائلا : ربي ارزقني وارزق الآخرين بسببي  ربي أعدني سالما لبيتي ربي اجعلني من المظلومين  لا الظالمين  .

( حمد التاجر صديق جده )    هذا المسلم كان في أول حياته ( عنتر ) من حرامية بغداد ولكنه تاب ونزع  وأناب وحافظ على شعائر الدين ، ومرة كان عائدا من سوق ( الشورجة ) معه  حوائج بيته، لعادة الناس في التبضع لحوائج البيت في كل يوم (لعدم الثلاجات )  ـ  فمر  بدار  ل (شوعة سمرا ) فرأى امرأة يهودية عجوزا جالسة على عتبة الدار  تئن  ،  دنا منها وسألها عن سبب أنينها  ، فقالت : عندنا يتيمة وهي مخطوبة  ، وقد آن زفافها ، ولكن ينقصنا أربع مجيديات ونصف المجيدي  ( قال أبو حكيم : هي عملة عثمانية من الذهب )  لتسديد باقي الدائنة ، وعريسها يمانع في الزواج قبل استلام المبلغ  ، قال لها : اطمئني وسار .

وعند العصر حين أخذ مشايخ الحي يتوافدون إلى المقهى كعادتهم  ، ذهب حمد التتنجي أيضا إليه وانتظر حتى إذا تكاملوا في الحضور  ، توسط المكان وقال :  انتبهوا إليّ وجهاء حي  بني سعيد  اليوم صباحا مررت بدار عائلة يهودية في حينا وبلغني أن لهم يتيمة حان زفافها  وأنهم بحاجة إلى أربع مجيدات ونصف لتسديد الدائنة ، إن من واجب حينا أن يفهم هذه الحاجة  ، وهذا ندائي إليكم وتبرع ( بربع مجيدي ) ، وفي الحال تجمع ( خمس مجيديات ونصف )  فتوجه حمد إلى الجرخجي  خماس الكويلي ( حارس الحي ) وقال له  ( نادي لي ابني منشي ) ( قال أبو حكيم  : لا حظ أنه قال نادي (ابني منشي) يقصد اليهودي صاحب المقابلة  المكنى بأبي إبراهيم ) قال منشي  : فجئته ووجدته جالسا في حانوته فناداني إليه وقال  : كذا وكذا حصل لي هذا الصباح ، وكذا فعل مشايخ الحي  ، ولآن خذ هذه الصرة من النقود وخذ معك خماس الكويلي  ، وسلمها للعجوز  ، واحذر أن تمس عواطفها لئلا تمتنع عن الآخذ ، ثم حاذر أن تذكر لها شيئا   عني .

فذهبت وطرقت الباب فخرج العجوزان فسألت عن المرأة التي  جلست صباحا على العتبة  تشتكي الحظ والحاجة  فقالت العجوز : وما تريد بعجوز لم تحسن كظم ما بها من الحسرة ، فقلت لها : جدتي مصائب الدهر  تنزل بكل مخلوق  ولا يسلم منها أحد وماذا يفيد المرء إذا حرم جيرانه  من نجدته في ضيقه ،  وها هو رب السماء قد سمع دعواتك فأرسل إليك شيخا وقورا شاركك حزنك وهب لنجدتك فأرسل إليك خمس مجيدات ونصفا جمعها من مشايخ الحي .

فلم يقبل الشيخان أخذ المال إلا إذا عرفا المحسن ، فلم أر بدا من إخبارهما فأخبرتهما ودفعت النقود وعدت ( لحمد ) وأخبرته بما جرى من كشف اسمه للعجوزين  واستشهدت بخماس حارس الحي   عن امتناعهما من أخذ النقود حتى يعرفان المحسن . فعذرني وصرفني مطريا وبعد نصف ساعة رأيت الشيخين يخرجان ومعهما القنديل وقبلتهما حانوت ( حمد التتنجي )  ليقدما له شكرهما .

ومن العجب أن هذا الرجل أقصد ( منشي ) قد قدم ست حلقات  في الإذاعة عن رمضان  ومنعا للحرج قدمها باسم مستعار  ( فقدم حلقة عن عادات رمضان وخلفياته الإنسانية والاجتماعية  ( بُلغناه  وإياكم  )  ، والثانية حول ثلاث عادات جميلة ( عطوة وصرة وصرة )  (فالعطوة )الهدية في كل يوم من رمضان  ومنها إرسال أطباق الطعام من بيت لبيت فتجد أهل البيت إفطارهم من أنواع متعددة من جيرانهم ولا يبقى في الحارة بيت جائع أو محتاج حيث يتم التواصي على المعوزين والمحتاجين فلا ينقصهم شيء  ، و (الصرة الأولى ) : مال يقدمه الرجل لامرأته لتوزعه على نساء الحي المعوزات بستر وحفظ ماء الوجه   ، و ( الصرة الثانية ) : نقود يعطيها الرجال لأولاد الحارة الفقراء في صباح كل جمعة من رمضان   ، إذ قالوا : هذا الولد يخرج لأترابه وفي جيبه نقود للحلوى ولألعاب رمضان وهذا لا  ؟ هذا لا يجوز .

ومن القصص أنه كانت هناك ألعاب للأطفال يشتركون فيها جميعا في الحي أو مع حي آخر وكانت تربو على العشر منها لعبة المقلاع فقام مرة فتى من دار قصاب ( يهودية ) ورمى فتى  ثريا  من ( باب الشيخ )  يمر في الميدان على فلوه ( حصان صغير )  فثار الفتى وتوعد اليهودي  فرماه بالمقلاع مرة أخرى  فما كان من الفتى الثري إلا أن أخرج مسدسه وأردى الفتى اليهودي قتيلا   ، فثار حي ( بني سعيد )  كله نصرة للفتى اليهودي ، وكادت تقع الواقعة بين الحيين  لولا توسط العقلاء من الحيين  فسوي  ذات البين  . والحديث ذو شجون  هكذا كانت بغداد فهل تعود لما كانت عليه  ، حمى الله بلادنا من  كل كيد  .

والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .

اترك تعليقاً